قرر الأستاذ/ مصطفى حمدو عليان الحنبلى: في كتابه القيم النافع ” الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة ” : إن ما رواه الإمام النووي في أحاديث الصفات الخبرية، من مذهبي التفويض والتأويل عن السلف الصالح، ينطبق على السادة الحنابلة من إمامهم أحمد بن حنبل، إلى محققي الحنابلة في يومنا هذا…
واستدل بأقوال ثابتة في التأويل عن الإمام أحمد وكبار أصحابه وأئمة مذهبه، مثبتا قول ابن غنيمة الحنبلي: ” وحملُها على الظاهر يوجب التشبيه، فلم يبق إلا التأويل، أو حملها على ما جاءت لا على الظاهر” المسودة /220″ كما أثبتَ قول مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي – رحمه الله – “واعلم أن هذه الأحاديث ونحوها تُروي كما جاءت ، ويُفوض معناها إلى الله ، أوتُؤول بما يليق بجلاله –سبحانه- ، ولا تُردّ بمجرد العناد والمكابرة” أقاويل الثقات/117
وقد بدأ التأويل للنصوص المتشابهة بقول إمام المذهب أحمد بن حنبل – رضي الله عنه- في آية (فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) يقول : نترككم في النار (كما نسيتم) كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا .
أما قوله في كتاب : (لا يضل ربي ولا ينسى) يقول : لا يذهب من حفظه ولا ينساه.. “الرد على الزنادقة /17”
ومما أوله الإمام أحمد آية (إنا معكم مستمعون) قال : ” فهذا من مجاز اللغة ، يقول الرجل للرجل : إنا سنُجري عليك رزقك إنا سنفعل بك كذا ، وأما قول ( إنني معكما أسمع وأرى )فهو جائز في اللغة .. يقول الرجل الواحد للرجل :” سأجري عليك رزقك أو سأفعل بك خيراً “ الرد على الزنادقة 18
وللإمام أحمد تأويلات عديدة لآيات قرآنية ، وأحاديث نبوية ثابته عنه ، وكان ـ رضي الله عنه ـ يفرق بين التأويل الصحيح والتأويل الباطل ، فيقول بالأول ويرفض الثاني ، يقول بالأول كما روى عن ابن عباس ، ومجاهد، والضحاك ،والأعمش ،وسفيان بن عيينة ،والقاسم بن سلام …فقاعدة التأويل عند الحنابلة جواز التأويل بما روى عن السلف الصالح ، أو لضرورة انتشار الشبهات حول صفات الله بسبب تأويلات الفرق الضالة ،فيجب على أهل العلم دفعهم كما فعل الإمام أحمد فيما كتبه رداً على الزنادقة والجهمية والمعتزلة …ولا ريب أن القول بالتأويل لبعض الآيات عند الحنابلة هو شقيق للقول بالمجاز عندهم كما سبق ان قررته عنهم سابقاً …
وإذا كان الامام أحمد بن حنبل قد قال بثبوت المجاز، وسماه بمصطلحه الذي استقر عليه من قبل ومن بعد فإن أكثر الحنابلة قد اتبعوه، وصار القول بالمجاز هو المعتمد في مذهب الحنابلة ..
بل إن الإمام أحمد قد تكلم بالمجاز في أساليب كتابته ، حيث قال في” مسألة الصلاة ” فاعلموا رحمكم الله أن العبد إذا خرج من منزله يريد المسجد إنما يأتي الله الجبار الواحد القهار العزيز الغفار ، وإن كان لا يغيب عن الله حيث كان ، ولا يعزب عنه ـ تبارك وتعالى ـ مثقال حبة من خردل ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .. “
وهذا تعبير مجازي ، لا يماري فيه من به طِرْق، أي: إن الجائى للمسجد يأتي رحمة الله ، وعظمته ، وجلاله ، ومغفرته ، وهذا كله من باب المجاز العقلي ذا النسبة الإيقاعية ، مثلما قرره علماء البلاغة في قوله ـ سبحانه ـ : (ولا تطيعوا أمر المسرفين ) ، حيث فهموا أن في الأسلوب مجازا عقليا ؛ إذ المعنى : ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم ، فأُوقع النهىُ :”لا تطيعوا ” على غير ما حقه أن يوقع عليه “المسرفين ”
وقد رُوى في ” طبقات الحنابلة 1/ 208 ” قول محمد بن الصلت عن عبد الرحمن المتطبب .. المعروف بطبيب السنة ” قال دخلت على أحمد بن حنبل أعوده ، فقلت : كيف تجدك ؟ قال : أحمد الله إليك .. أنا بعين الله “
وهذا أيضاً على سبيل الكناية مستمد من قول الله تعالى . ( تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر ) القمر /14، وقوله ـ سبحانه ـ (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) هود /27، وقد روى القرطبى عن ابن عباس : بحراستنا، وعن الربيع بن أنس “التابعى البصرى المفسر المحدث المتوفى س 139 أو 140” : بحفظنا إياك حفظ من يراك ، ثم عقب القرطبى : والمعنى واحد .. الجامع لأحكام القرآن 9/30 ..
وقال الطاهر بن عاشور :والمراد الكناية بالمعنى المجازى عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخطأ في الصنع.. التحرير والتنوير 12/66 ..
ويكفيك أن ابن قدامة الحنبلي ـ وهو من هو في المذهب ـ له كتاب أسماه ” ذم التأويل ” ، ولم ينكر فيه المجاز ، بل قد جعل الحمل على المجاز هو الظاهر في بعض الآيات ، فقال : ” وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه ، حقيقة كان أو مجازاً . ذم التأويل 45
” فالحمل على المجاز ليس تأويلاً ـ عند ابن قدامة ـ لأنه ليس عدولاً عن الظاهر ، وأنت تلاحظ أن كلام ابن قدامة في إنكار التأويل المذموم ، وإلا فكلامه يثبت التأويل الصحيح ، الذي يعتمد على مجاز اللغة ، وعليه فإن الظاهر الحسي المفهوم من بعض آيات الصفات اعتباطاً غير مراد ” الحنابلة واختلافهم / 281
وفي الجملة الأخيرة ما يوجب تعقيباً بأن الأخذ بظاهر آيات الصفات وأحاديثها يُدخل ـ حتما ـ في القول بالتشبيه والتجسيم ، اللذين تبرأ منهما أئمة السلف ، حنابلة وغير حنابلة ، ويكفيك قول ابن النجار الفتوحي الحنبلي في شرح الكوكب المنير ” كصفات الله ـ تعالى ـ ” أي : كآيات الصفات وأخبارها ، فاشتبه المراد منها على الناس ، فلذلك قال قوم بظاهره فشبّهوا وجسّموا ، وتأول قوم فحرّفوا وعطّلوا ، وتوسط قوم فسلّموا ،وهم أهل السنة وأئمة السلف الصالح ..
كذلك انتقد ابن غنيمة الحنبلى القول بأن الحمل على الظاهر هو قول السلف في آيات الصفات ؛لأن الحمل على الظاهريفضى إلى التشبيه ،وأما مذهب السلف فهو إمرارها كما جاءت ‘ فقال :
“وحملها على الظاهر يوجب التشبيه ،فلم يبق إلاالتأويل، أوحملها على ما جاءت لا على الظاهر “.. وهذا ظاهر جداً في أن السادة الحنابلة يشاركون إخوانهم في المذاهب الثلاثة في القول بالتفويض في فهم آيات الصفات ـ وهو الأصل ـ والتأويل عند الحاجة إليه ..
وأنهم يرون أن رأى السلف في آيات الصفات هو إمرارها كما جاءت، وليس حملها على الظاهر كما تقول السلفية المعاصرة ، زاعمة أن هذا قول السلف، وها هم السادة الحنابلة يبيِّنون ما يصلح أن يكون الفيصل بين القولين …فلا يلتبس الأمر بعد هذا على عاقل منصف.