Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

الفروق الدلالية عند ابن القيم [12] الرجـاء والتمني والـرغـبة .. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

فرق ابن القيم بين الرجاء والتمني، ثم فرق بين الرجاء والرغبة منبهاً على التقارب بين هذه الألفاظ في المعنى, ذاكراً بعض الملامح الخاصة بكل منها, وهو في هذا المقام يستخدم بعض مصطلحات السالكين في هذا التفريق.

1- الرجاء:

فالرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب (وهو الله والدار الآخرة) ويُطيِّب لها السير, وقيل هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى, والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه, وقيل: هو الثقة بجود الرب تعالى, والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد, والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل”[1]. “والفرق بين الرغبة والرجاء أن الرجاء طمع والرغبة طلب, فهي ثمرة الرجاء, فإذا رجا الشيء طلبه ورغب فيه”[2].

لكن ابن القيم حين فسر الرجاء لم يذكر مفهومه عند أهل اللغة، بل ذكر مفهومه عند أهل التصوف, وهو وإن كان قريباً من مفهومه اللغوي, أو لازماً من لوازمه فإن أهل اللغة يفسرونه بمعنى الأمل, يقول ابن فارس: “الراء والجيم والحرف المعتل أصلان, يدل أحدهما على الأمل, والآخر على ناحية الشيء، فالأول: الرجاء, وهو الأمل …”[3] وهو عند صاحب اللسان أيضاً الأمل نقيض اليأس, وقد تكرر في الحديث ذكر الرجاء بمعنى التوقع والأمل[4].

أما الكفوي فقد جعل معناها “الطمع فيما يمكن حصوله, ويرادفه الأمل”[5]. لكن الراغب يرى أنه “ظن يقتضي حصول ما فيه مَسرَّةَ”[6]، وجعله ابن عاشور “ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله”[7].

فأنت ترى أن الجميع يحوم حول معنى الأمل، فالرجاء أمل يتوقع في حصول ما فيه خير أو سعادة للراجي, ولأنه ليس متحققاً فهو ظن أو تغليب ظن, ولأنه ليس بيد الراجَي وأنه في الخير فهو طمع، فإذا كان الرجاء من الله في فضله ومرضاته فهو كما فسره ابن القيم حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب, أو استبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، فالراجي رحمة ربه طامع في غفرانه يحدوه أمل في القبول, ولذلك قال قتادة في قوله تعالى: ﯙ  ﯚ  ﯛ   ﯜ[8] هؤلاء هم خيار هذه الأمة, ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون, وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب”[9].

2- التمني:

لم يفسر ابن القيم التمني بل ذكر ملمحين من ملامحه الدلالية وهما:

1- أنه يصحبه كسل.                 2- لا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد.

والثاني منهما من لوازم الأول. لكن المادة تدل على أصل واحد صحيح, وهو تقدير شيء ونفاذ القضاء به, منه قولهم: مَنَى لَه الماني, أي قدّر المقدّر, وتمنى الإنسان – كذا قياسه – أمل يَقَدِّره”[10].

وأكد الراغب هذا المعنى وبين أنه قد يكون مبنياً على أصل, أو على تخمين وظن, “فالتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها, وذلك قد يكون عن تخمين وظن, ويكون عن روية وبناء على أصل, لكن لمَّا كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك, فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له”[11]. ولأن الشيء المُتَمَنَّي تشتهيه النفس وترغبَه؛ فقد جعله ابن الأثير أهم ملامح هذا المعنى، فالتمني “تشهي حصول الأمر المرغوب فيه, وحديث النفس بما يكون وما لا يكون”[12]، والأمر المتمنَّي أمر محبَّبٌ إلى النفس, ولذلك حدّه  أبو بكر بذلك فقال: “تمنيت الشيء, أي قدّرته وأحببت أن يصير إلىّ”[13]. لكن أبا هلال حين فرق بين التمني وبين الإرادة جعل التمني أمراً فائتاً كان في النفس لجلب نفع أو دفع ضرر، ماضياً كان أو مستقبلاً[14]، كما جعله يتعلق بما يلذ وما يكره, مثل أن يتمنى الإنسان أن يموت[15].

وفرق الكفويّ بين التمني والرجاء, فالترجي: ارتقاب شيء ولا وثوق بحصوله، والتمني: محبة حصول الشيء سواء كان ينتظره ويترقب حصوله أو لا, والترجي في القريب, والتمني في البعيد, والتمني في المعشوق للنفس, والترجي في غيرة[16].

ويتضح مما سبق أن التمني يتميز بكثير من الملامح الدلالية, أهمها ما يلي:

1- أنه أمر مقدر في النفس.         

2- أنه مُحَبّب ومشتهي ومعشوق للنفس. 

3- قد يكون مبنياً على أصل، وأكثره ظن وتخمين.

4- قد يكون فيما يكره كتمني الإنسان الموت.

5- أنه يكون في المأمول البعيد.

6- لا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد.           

7- يصحبه كسل.

3- الـرغبـة:

فرق ابن القيم بين الرغبة والرجاء, “فالرجاء طمع والرغبة طلب, فهي ثمرة الرجاء, فإنه إذا رجا الشيء طلبه ورغب فيه”[17]. فالرغبة من لزوم الرجاء, أو هي كما قال ابن القيمّ ثمرته, لأن طلب الشيء يأتي نتيجة الطمع فيه, والمادة في أصلها تدل على أصلين: أحدهما طلب الشيء, والآخر السعة في الشيء[18], وجعلهما الراغب أصلاً واحداً, فأصل الرغبة السعة في الشيء … والرغبة: السّعة في الإرادة, قال تعالى: ﯫ  ﯬ  ﯭ[19] ، فإذا قيل رغب فيه وإليه، يقتضي الحرص عليه[20], وجعلها ابن منظور بمعنى الضراعة والمسألة أو السؤال والطمع, والإرادة[21]، وكذلك فسرها بعضهم بالإرادة والحرص على الشيء, أو الرجاء والطلب[22].

ويتضح مما سبق أن الرغبة لها ملامح دلالية أهمها ما يلي:

1- السعة في الطلب.        

2- الحرص عليه.     

3- الضراعة في المسألة.

وقد جاءت في مواضع عديدة من القرآن، منها قوله تعالى: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[23] وقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ)[24]  وقوله تعالى: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)[25] وقوله تعالى: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)[26]  وقوله تعالى: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)[27] وهي في هذه السياقات المتعددة تحتمل تلك الملامح الدلالية السابقة, غير أن حرف الجر الذي تتعلق به قد يحول المعنى من إرادة الطلب والسعة فيه إلى إرادة الترك والبعد عن الشيء، فرغب فيه تناقض رغب عنه، وبينهما بون شاسع في المعنى.

===================

[1] مدارج السالكين 2/36 , 37

[2] السابق 2/ 55 والدر المصون 2/402

[3] المقاييس 2/494 “رجا”

[4] اللسان “رجا”

[5] الكليات ص 468

[6] المفردات ص 194

[7] التحرير والتنوير 2/338

[8] البقرة آية 218

[9] الكشاف 1/235

[10] المقاييس 5/276

[11] المفردات ص 478

[12] اللسان “منى”

[13] اللسان “منى”

[14] الفروق ص 127

[15] السابق ص 128

[16] الكليات ص 468

[17] مدارج المساكين 2/55

[18] المقاييس 2/415 “رغب”

[19] الأنبياء آية 90

[20] المفردات ص 204

[21] اللسان”رغب”

[22] الكليات للكفويّ ص 482

[23] الشرح آية 8

[24] البقرة آية 130

[25] النساء آية 127

[26] الأنبياء آية 90

[27] التوبة آية 59