الفصل الثاني
الخصائص الاجتماعية لأساليب الدعاء على الإنسان
توطئة :
من المعروف أن المجتمع العربي في عصور الاحتجاج كان ينقسم إلى : ” بدو وحضر، أهل وبر وأهل مدر، يتساوى في هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى … فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري، يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال”[1].
ويرى الأستاذ / أحمد أمين أن : ” هذا النوع من البيئة حدد نوع معيشتهم ،فهم رحل يتطلبون الكلأ ، وهم فقراء ثروتهم في كثرة ماشيتهم ، وهذه الثروة تحت رحمة الطبيعة ، فقد تنفق الماشية ،وينضب ماء الآبار ، ويقل المطر فيقل المرعى ، ويسوء العيش ، وبحق سموا المطر غيثا ، وهذا النوع من البيئة أيضا حدد نوع أخلاقهم وعقليتهم ؛ أليس البؤس هو الذي جعل الكرم وإطعام الطعام ، وإيقاد النيران يهتدي بها الضيفان في مقدمة الفضائل؟ّ!
أوليس هذا الفقر هو الذي حبب إليهم الإغارة فأشادوا بذكر حمى القبيلة ، وعيروا من قصر في الدفاع عنها ، واسترخصوا النفوس في سبيل حمايتها ؟!
وإذا كانت الحياة بين إغارة ودفع مغير ،والسبل كلها غير آمنة ،ولاحكومة تقتص من جان او تحمي طريقا؛ أفليسوا إذا في حاجة لأن يعدوا الشجاعة والوفاء والعفو من كبريات الفضائل ؟ وهكذا قل في عقليتهم ، فالعدل والظلم والخير وما يذم وما يمدح ،كله تابع لما تواضعوا عليه ،وما تواضعوا عليه تابع لنوع معيشتهم “.[2]
وسوف نحاول في هذا الفصل أن نتعرف على الخصائص الاجتماعية لهؤلاء البدو والحضر من خلال أساليب الدعاء على الإنسان .
المبحث الأول
الدعاء بالموت والهلاك
جُبل الإنسان على حب الحياة وكراهية الموت ، وكذلك كان العربي يحب الحياة ويتمتع بها ويكره الموت إلا إذا كان دفاعا عن نفسه وقبيلته “ فحب الفرد لقبيلته وتفانيه في إخلاصه لها، والعمل على رفع شأنها، وإعلاء كلمتها، وتعصبه لها وحدها، كل ذلك جعله يتجاهل غيرها، ولا يعترف بحق الحياة أو الملكية أو المتعة لأحد من سواها، كأنما لم يخلق في الوجود غيره وغير قبيلته، فدفعه هذا الاعتقاد إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، ما دام يملك القوة أو الفرصة المواتية، فكانت الغارات والحروب التي ينجم عنها إزهاق الأرواح، ونهب الأموال وأسر الرجال، وسبي النساء، مما يشيع الرهبة في قلوب الآخرين، ويعلي من شأن المنتصرين، وينمي ثروتهم، بما غنموه من مال، أو كسبوه من فداء الأسرى والسبايا، أو احتلال أرضهم، ونزول ديارهم. وما كانوا يكفون عن الغارات والحروب إلا في الأشهر الحرم “[3]
ومما يدلل على قيمة الحياة عند العرب ما كان يفعله النساء عند موت عائلهن “ فكن يشققن جيوبهن عليه، ويلطمن وجوههن ،ويقرعن صدورهن ،ويعقدن عليه مأتمًا من العويل والبكاء “[4]
وخير دليل على ذلك ما فعلته الخنساء على أخويها معاوية وصخر ، وما سجله التاريخ لها من مرثيات فيهما [5]
“وكانوا يكثرون من تأبين من يموتون منهم في ميادين الحرب، وقد يضمنون هذا التأبين هجاء لاذعًا لخصومهم وفخرًا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها”[6]
وهذا إن دل فإنما يدل على كراهيتهم لموت أحبابهم وكذلك موت أنفسهم إلا أن يكون دفاعا عن قبيلة أو نفس أوغارة على غيرهم طلبا للغنائم .
ولكراهيتهم للموت تفننوا في الدعاء على من لا يحبونه به ؛ إلا أنهم لم يصرحوا بلفظ الموت أو مترادفاته إلا في القليل ، ولكن أكثر ما ورد عنهم جاء بأسلوب الكناية[7] فورد عنهم :
” وفي الدعاء على الإنسان بالموت: دفق الله روحه: أي : أفاظه”[8]
” (قطع الله لهجته ) أي :أماته . (قد الله أثره) أي : أماته”[9]
“( اقتثمه الله إليه ) أي : قبضه إليه”[10]
“( رماه الله بليلةَ لا أخت لها ) وهي ليلة يموت.”[11]
” ( رماه الله بالنَيْطِ ) أي: بالموت.”[12]
“وقال أَبو زيد: (رماه الله بالأَكَّةِ ) أَي : بالموت”[13]
“ويقال : (رماه الله بدَينِه ) أَي : الموت ؛لأَنه دَين على كل أَحد”[14]
” ( ذَبلته الذَّبُول )[15] أي : ثَكلَته أمه”[16]
” (لأمه العُبْر والعَبَر) أي : الثكل”[17]
” (لا عد من نفره )[18] أي : مات”[19]
“وقال أبو صاعد : ( قطع الله به السبب ) أي : قطع سببه الذي به الحياة”[20]
“وقال أبو العباس : (ماله غالته غول ) و( شعبته شعوب ) قال الأصمعي : شعوب بغير ألف ولام معرفة لا تنصرف لأنها اسم للمنية. و( ولعته الولوع ) ولعته : ذهبت به “[21]
“( زال زواله وزيل زويله )أي : ذهب ومات”[22]
” (سقاه الله الذيفان) وهو : السم السريع القتل”[23]
” (عليه العفاء ) أي : محو الأثر”[24]
“(رَمَاه اللهُ بالحَيْدَرَةِ ) أي : بالهَلاكِ”[25]
” (رَمَاه اللَّهُ بشَرْزَةٍ وَجَرْزَةٍ ) يُريْدُ بها الهَلاَكَ.”[26]
” (رَمَاه اللّهُ بِشَرْزَةٍ ) أي : أهْلَكَه. وقد أشْرَزَه اللّهُ: أي ألْقَاه في مَكْرُوهٍ.”[27]
” ( رماه اللهُ بالتُّهْلُوك ) أي: الهَلَكَة”[28]
” (رماه الله بالسُّواف ) أي : بالهلاك.”[29]
ـ الدعاء على الإنسان بموت زوجته :
قد يدعون على الرجل بموت زوجته لما لها من شأن عظيم لدى الرجل فهي الأساس في: إعمار البيت ، وإنجاب الولد ، والقيام على مصالح بيتها وزوجها [30].
فالمرأة العربية على كل الأحوال ” تشارك الرجل في شئون الحياة ، فهي تحتطب وتجلب الماء ، وتحلب الماشية ، وتنسج المسكن والملبس ، وتخيط الثياب ‘ وهي ـ على الجملة ـ أقرب في عقليتها إلى عقلية الرجل “[31]
ومن ذلك :
ـ “(ما له آمَ وعامَ ) ، فآم : هَلَكتْ امرأَتُه ، وعامَ : هلَكَتْ ماشِيَتُه فاشْتاقَ إلى اللبَنِ”[32]
” (أباد الله عترته ) أي ذهب بأهل بيته “[33]
ـ الدعاء بهلاك الأهل والشعب والعشيرة :
” أفراد القبيلة متضامنون أشد ما يكون من تضامن ، ينصرون أخاهم ظالما أو مظلوما ،يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا[34]
إذا جنى أحدهم جناية حملتها قبيلته ، وإذا غنم غنيمة فهي للقبيلة ولرئيسها خيرها ، وإذا أبت قبيلة أن تحميه لجأ إلى قبيلة أخرى ووالاها ، وحسب نفسه كأنه أحد أفرادها “[35]
ولمكانة القبيلة من الرجل ، ولمكانة الأهل منه دعوا على الرجل بهلاكم ، حتى لا يجد من ينصره .
فقالوا :
” ( شتت الله شعبه ) أي : أباد الله أهله “[36]
” (أباد الله عترته ) أي : ذهب بأهل بيته “[37].
” ابتاضه الله وابتاضهم الله وابتاض بنو فلان بني فلان إذا أتوا عليهم وعلى أموالهم”[38]
=====================
[1] ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام . د/ جواد علي ج/ 7 ص 271 { دار الساقي ط . الرابعة 1422هـ/ 2001م }
[2] ـ فجر الإسلام د/ أحمد أمين ص 75 { الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996م }
[3] ـ في تاريخ الأدب الجاهلي لعلي الجندي ص 67 { مكتبة دار التراث . ط. الأولى 1412هـ ـ 1991م }
[4] ـ تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي لشوقي ضيف (ت1426هـ) ص 207 { دار المعارف . القاهرة . ط. الحادية عشرة }
[5] ـ ينظر السابق ص 207
[6] ـ السابق ص 208
[7] ـ ينظر في ذلك : كنايات الأدباء وإشارات البلغاء للجرجاني (باب العدول عن الألفاظ المتطير بها إلى غيرها )ص 185 وما بعدها .
[8] ـ المحكم ( د ف ق )
[9] ـ ذيل الأمالي ص 65
[10] ـ ذيل الأمالي ص 67
[11] ـ المحكم ( ء خ و )
[12] ـ الصحاح ( ن و ط )
[13] ـ لسان العرب ( أ ك ك )
[14] ـ اللسان ( د ي ن )
[15] ـ “ويروى بالدال غير معجمة وهو أجود يقال دبلته الدبول بالدال غير معجمة مثل ثكلته الثكول أي ثكلته أمه” .ينظر: ذيل الأمالي ص 63
[16] ـ المزهر ج 2 ص 263
[17] ـ ذيل الأمالي ص 66
[18] ـ “والنفر أهل الرجل وأقاربه ممن ينفر معه في الشدة والخطب الجليل” ينظر ذيل الأمالي ص 65
[19] ـ ذيل الأمالي ص 65
[20] ـ ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي ص 65 { الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1976م }
[21] ـ ذيل الأمالي ص 64
[22] ـ ذيل الأمالي ص 65
[23] ـ ذيل الأمالي ص 64
[24] ـ ذيل الأمالي ص 65
[25] ـ المحيط في اللغة ( ح د ر )
[26] ـ المحيط في اللغة ( ج ر ز )
[27] ـ المحيط ( ش ر ز )
[28] ـ المخصص ج 2 ص 75
[29] ـ الجمهرة ( س و ف )
[30] ـ ينظر في ذلك : ـ بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للسيد محمود شكري الألوسي البغدادي . تح/ محمد بهجة الأئري ج 2 ص 6 : 13
[31] ـ فجر الإسلام ص 21
[32] ـ المخصص ج 1 ص 464
[33] ـ ذيل الأمالي ص 67
[34] ـ البيت لقريط بن أنيف العنبري ينظر : خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي (ت1093هـ) تح : عبد السلام محمد هارون .ج 7 ص 441{ مكتبة الخانجي، القاهرة .ط . الرابعة، 1418 هـ – 1997م } .
[35] ـ فجر الإسلام ص 19 ، 20
[36] ـ ذيل الأمالي ص 64
[37] ـ المزهر ج 2 ص 267
[38] ـ ذيل الأمالي ص 67