حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [7] الفحشاء والمنكر.. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

الفحشاء والمنكر:

يدخل هذان اللفظان ضمن الحقل الدلالي الذي ضم اللفظين السابقين “الإثم والعدوان” وقد فرق ابن القيم بينهما دلالياً، “فالفحشاء صفة لموصوف محذوف تقديره الفعلة الفحشاء أو الخصلة الفحشاء, وهي ما ظهر قبحها لكل أحد, واستفحشه كل ذي عقل سليم, ولهذا فسرت بالزنا واللواط, وسماها الله فاحشة لتناهي قبحها, وكذلك القبيح من القول يسمىّ فحشاً, وهو ما ظهر قبحه جداً من السب القبيح والقذف ونحوه.

وأما المنكر فصفة لموصوف محذوف أيضاًَ, أي الفعل المنكر الذي تستنكره العقول والفِطَر”[1].

        ويرى ابن القيم أن بين اللفظين عموماً وخصوصاً, فالمنكر أعم من الفاحشة, فكل فاحشة منكر، وليست كل منكر فاحشة، يقول: “ونسبته إليها كنسبة الرائحة القبيحة إلى حاسة الشم, والمنظر القبيح إلى العين, والطعم المستكره إلى الذوق, والصوت المستكره إلى الأذن. فما اشتد إنكار العقول والفطر له فهو فاحشة, كما فحش إنكار الحواس له من هذه المدركات.

فالمنكَر لها: ما لم تعرفه ولم تألفه, والقبيح المستكره لها: الذي تشتد نفرتها عنه هو الفاحشة, ولذلك قال ابن عباس “الفاحشة: الزنا, والمنكر: ما لم يعرف في شريعة ولا سنة”[2]. فابن القيم يرى أن الفحشاء: هي الخصلة المتناهية في القبح الظاهر قبحها لكل ذي عقل سليم, أما المنكر فهو الذي تستنكره العقول والفطر, فكلاهما مستنكر تأباه العقول والفطر، لكن العقول والفطر أشد نفوراً, وأكثر استهجاناً للفاحشة، وذلك لتناهي قبحها, ووضوح هذا القبح لكل ذي عقل.

لقد طاف العلماء حول المعنى الذي حدده ابن القيم للفاحشة ولعله استفاده ممن سبقه من العلماء كالراغب وغيره، ففي المفردات: “الفُحش والفحشاء والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال”[3] وكذلك قال الزمخشري: “الفاحشة ما تبالغ في قبحه من الذنوب[4]، أو الفعلة البالغة في القبح”[5]، وسماه القرطبيّ “الأعمال المفرطة في القبح”[6].

لكن اللغويين تغاضوا عن الإفراط أو المبالغة أو التناهي في تفسير اللفظ وقصروه على القبيح من القول والفعل، فالخليل يرى أن “الفحشاء: اسم للفاحشة، وأفحش فى القول والعمل, وكل أمر لم يوافق الحق فهو فاحشة”[7]، “والفحش والفحشاء والفاحشة – عند ابن سيده  – القبيح من القول والفعل, وجمعها الفواحش”[8]، والمادة عند ابن فارس كلمة تدل على قبح في شيء وشناعة, من ذلك الفحش والفحشاء[9]. وفسرت الكلمة ببعض معناها, لورودها في سياقات متعددة من آيات القرآن, أو السنة النبوية لهذا المعنى، ففسرت بمعنى الزنى, قال ابن الأثير: وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنى, ويسمى الزنى فاحشة, وقال الله تعالى: (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [10]. وتأتي أيضاً بمعنى اللواط, في مثل قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ )[11]. وتأتي بمعنى خروج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه, وتأتي بمعنى بذاءة اللسان وتجاوز الحد في القول, وفي حديث فاطمة بنت قيس, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة, وذكر أنه نقلها إلى بيت ابن أم مكتوم لبذاءتها وسلاطة لسانها ولم يبطل سكناها، لقوله عز وجل: (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [12]. وتأتي بمعنى العمل القبيح مطلقاً, فكل شيء جاوز قدره من قول أو عمل فهو فاحشة[13]، ومنه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)[14]، وقد فسرها بعضهم بمطلق المعصية[15]، لكن الزمخشري جعلها الفعلة المتزايدة في القبح[16], وهذا يتناسب مع قوله تعالى: (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ )[17] فظلم النفس ارتكاب ما دون الفاحشة من الذنوب, كما أن التّفشي في الشين يؤذن بعظم بظلم الفاحشة وبشاعتها, وأنها تغلب على الكبائر دون الصغائر.

أما المنكر فهو ضد المعروف, وقد دلت على ذلك مادة النون والكاف والراء, فترجع إلى أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة, ونكر الشيء وأنكره لم يقبله, ولم يعترف به لسانه … والباب كله راجع إلى هذا”.[18]

وكلام الراغب يرجع الحكم بالقبح على المنكر للعقول لا القلوب، فإن توقف العقل أو تحير في الحكم، حكمت الشريعة بذلك، وهو كلام يؤكد ما ذهب إليه ابن القيم, فالمنكر: “كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه, أو توقف في استقباحه واستحسانه العقول, فتحكم بقبحه الشريعة”[19]. لكن الكفوي يرى أن المنكر ما نفرت منه وكرهته[20]. وأرجع ابن منظور الحكم على المنكر إلى الشرع فقط، فقال: “والمنكر من الأمر: خلاف المعروف… وكل ما قبحه الشرع وحرّمه وكرهه, فهو منكر”[21] فالمنكر على ذلك له ملامح, أهمها ما يلي:

1- أنه ضد المعروف أو المألوف.

2- ما أنكره القلب ولم يعترف به اللسان.

3- ما حكم العقل أو الشرع بقبحه.

4- ما نفر منه الإنسان وكرهه.

5- كل ما قبحه الشرع وحرّمه وكرهه.

وعلى هذا فالمنكر لا يكون فاحشة إلا إذا أفرط أو بولغ فيه, أو كان القبح فيه زائداً عن الحد, فالمنكر أعم من الفاحشة.

======================

[1] مدارج السالكين 1/377

[2] السابق والصفحة ذاتها.

[3] المفردات ص 375 , 376

[4] الكشاف 2/151

[5] السابق 3/485

[6] الجامع لأحكام القرآن 7/194

[7] العين 3/96 “فحش”

[8] اللسان “فحش”

[9] المقاييس 4/478 “فحش”

[10] الطلاق آية 1

[11] النمل آية 54

[12] اللسان “فحش” و الطلاق آية 1

[13] المقاييس 4/478 واللسان “فحش”

[14] آل عمران آية 135

[15] فتح القدير 1/496

[16] الكشاف 1/365

[17] آل عمران آية 135

[18] المقاييس 5/476 “نكر”

[19] المفردات ص 507 “نكر”

[20] الكليات ص 804

[21] اللسان “نكر”

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu