حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

التَّنَاصّ فى ميزان النّقد [الحلقة السابعة: مقابلات التناصّ عند النقاد العرب القدماء].. بقلم أ.د/ إبراهيم الهدهد

أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة ورئيس جامعة الأزهر الأسبق.

مقابلات التناصّ عند النقاد العرب القدماء

بعد هذا العرض الكاشف عن الصخب الذى أحدثه التناصّ شرقا وغرباً نتساءل هل كان تراثنا خلوا من مثل هذا حتى نجعل الدراسات الغربية أساسا لدرسه واصطفائه مسلكا في معالجة النصوص ، وهل التناصّ حسب ما سبق عرضه مصطلح نقدى أم مصطلح بلاغى أم هما معا ؟ هذه تساؤلات تلحّ على القارئ .

والحق أن التناصّ ليس جديدا تماما كما يرى معظم الباحثين ، وإنما هو موضوع له جذوره فى الدراسات النقدية شرقا وغربا بتسميات ومصطلحات أخرى، فالاقتباس والتضمين والاستشهاد والقرينة والتشبيه والمجاز والمعنى، وماشابه ذلك فى النقد العربى القديم هى مسائل أو مصطلحات تدخل ضمن مفهوم التناصّ فى صورته الحديثة .

كما أن الحال كذلك فى المصطلحات التى أشار إليها أرسطو فى فن الشعر، ومن تبعه من النقاد الغربيين القدماء كمصطلح المحاكاة والاستعارة ، وتوظيف الأسطورة والتخيّل والتضمين ، وما شابه ذلك فإنها أيضاً مصطلحات تدخل ضمن مفهوم التناصّ فى الدراسات الحديثة ، وفى رأى بعضهم أن الذى اختلف فى الأمر أن مفهوم التناصّ المعاصر قد تشعّب وتعمق واتسع بحيث احتوى هذه المصطلحات القديمة وتجاوزها،وأضاف إليها عناصر جديدة، وموضوعات تناصية أخرى كثيرة(1)

فالتراث النقدى العربى قد عرف الظاهرة مبكرا ، وأشبعها دراسة وتحليلا تحت مسميات متعددة ، وقد أشار كثير من النقاد وبعض الشعراء إلى ذلك ، فهذا امرؤ القيس يقول :

عوجا على الطلل المحيل لأننـا * نبكى الديار كما بكى ابن حزام

ونرى ابن رشيق فى كتابه قراضة الذهب يشير إلى أن مصدر كل كلام هو كلام قبله ، ويقول ابن الأثير كان العرب ينصحون المبتدئ من الشعراء بقراءة آلاف الأبيات الشعرية مع حفظها والتمعن فيها حتى تعلق معانيها بفهمه وترسخ أصولها فى قلبه(2)

وقديما قالوا : احفظ تقل إن الكلام من الكلام ، ومن الطبعى أن كل إنسان لا يولد شاعرا ولا قاصا ، ولكن بحكم قراءته ومطالعته يزداد مخزونه الثقافى ، ومع مرورالأيام تصقل موهبته؛ لذا قال ابن خلدون ناصحا الشعراء قبل أن يكتبوا الشعر : ” وعلى مقدار جودة المحفوظ والمسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ، ثم إجادة الملكة من بعدهما فبارتقاء المحفوظ فى طبقته عن الكلام ترتقى الملكة الحاصلة ؛ لأن الطبع إنما ينسج على منوالها ، وتنمو قوة الملكة بتغذيتها(3)

فقد وجد التناص فى تراثنا بأشكال كثيرة فعندنا المعارضات الشعرية فى العصرين الأموى والعباسى ، ونجد ذلك أيضا فى معارضة شوقى نهج البردة تناصاً مع البوصيرى(4) ، ونجد مصطلحات المعارضة الساخرة ، والمعارضة والسرقة فى الغرب يقابلها فى العربية المعارضة والمناقضة والسرقة(5)

ونرى فى تراثنا ديوان الأوائل لأبى هلال العسكرى كما ترى نظرية المحاكاة تفصيلا فى منهاج البلغاء لأرسطو ، وكل ذلك مما يصب فى التناصّ ، كما نرى قصيدة القوس العذراء للعلامة محمود شاكر من أورع الأمثلة على التناص مع قصيدة الشماخ فقد أعاد إنتاج قصيدة للشماخ من واحد وعشرين بيتا فى ثلاثمائة وستين بيتا ، كما نرى عناية القدماء بالسرقات ، وكيف يحتفل بالذى يخفي السرقة ، ويعد ذلك من عظيم الصنعة ، وقد وسعوا القول فى ذلك  فى عصور متتابعة بما يجعلنا نؤمن أنه ليس للتناص من جديد سوى الاسم وأن الولع بالمستورد طغى على العتيق التليد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم

============================

(1)   التناص ص  15  د. الزغبى

(2)   ينظر التناص فى النقد العربى م . س  . أجحيوح

(3)   مقدمة ابن خلدون ص  578 ط دار القلم

(4)   خصوصية التناص فى الرواية العربية ص  271 مصطفى عبد الغنى مجلة فصول العدد الرابع 1998م

(5)   تحليل الخطاب الشعرى 121 ، 122   محمد مفتاح

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu