Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

فاعلية الصوت اللغوي في صنع المعنى الشعري.. دراسة أسلوبية [الحلقة التاسعة] بقلم أ.د/ محمد عيد محمد عبد الله

رابعاً : الحركـــات الإعرابية :

        يقول ابن جني : “اعلم أن الحركات أبعاض لحروف المد واللين، وهي الألف والواو والياء فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث وهي الفتحة والكسرة والضمة، وقد كان متقدموا النحاة -رحمهم الله تعالى- يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة، الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريقة مستقيمة، ألا ترى أن الألف والياء والواو اللواتي هي حروف توام كوامل، قد تجدهن في بعض الأحوال أطول وأتم منهن في بعض، وذلك إذا وقعت بعدهن الهمزة والحرف المدغم نحو : يشاء، دابة، وهي في كلا الموضعين يسمين حروفاً كوامل، فإذا جاء ذلك فليست تسمية الحركات حروفاً صغاراً بأبعد في القياس منه، ويدلل على أن الحركات أبعاض لهذه الحروف أنك متى أشبعت واحدة منهن حدث بعدها الحرف الذي هي بعضه”(44).

        وفي كلام ابن جني ما يدل على أن القدماء كانوا يحددون أصوات اللين بصرف النظر عن طول الصوت وقصره ثلاثة أصوات أصيلة خرجت منها الأصوات الأخرى الفرعية، هي الفتحة والضمة والكسرة، وقد دل قياس أصوات اللين على أن “الفتحة أطول من الكسرة والضمة”(45).

        وقد أفاد الشاعر المعاصر كغيره من كبار شعراء العربية كالأعشى “إفادة إيحائية أتت من وعيهم لخصائص أصوات الكلمات وعياً يكاد يكون لا شعورياً لأنها من هذه الناحية لم تدرس في العربية دراسة منهجية يعتد بها على حين”(46)، ومن هذه النماذج قول فتحي سعيد(47):

         مات لم ينطق بحرف

        مات لم ينطق بكلمة

        مات مطـوى الشفة

        لم يقل حتـى وصية

        لم يقل حتـى وداعاً

        يـا وحـيدي …..

        في الفقرة الشعرية السابقة ضمت الأصوات الحركات القصيرة (الحركات الإعرابية) فإنها كما يقول ابن جني “بعض الحركات الطوال” ومن ثم فإن هذه الحركات القصار تحمل أبعاض المعنى التي يمكن أن تحملها الحركات الطوال سياقياً فضلاً عما تحمله من إزالة اللبس في اللغة وفض غموضها وتحديد دلالتها تحديداً دقيقاًن ومن النماذج التي تدلل بها على وجاهة الفكرة قول الشاعر محمد عفيفي مطر في قصيدته “تحريضات عمر”(48).

        أراه في جوانب المسجد راقصاً مقترباً متبعداً

        معلقــاً فــي الجانب المعتــم والمضئ

        أراه في تربصاته منكمشاً ممدداً

        منتظراً بين فواصــل الوردة

                بين آية وآية.

        أراه طالعاً من رحم الليل وبيضــة النهـار

        ومنشدا مرتبتي في السعف الأخضر والعرار

                        ***

        أنــام فــي المسجـد والعراء

        أعرض في تغاقلي النهزة للمشيئة

        منتظراً طعنتهــا الجريئـــة

        منتظراً أن تثمر الرشوة والأعطية الخبيئة

        سنـــابـــل الـــدمــاء

        في المقطع السابق تؤدي الحركة الإعرابية دوراً بارزاً وأساسياً في تحديد دلالته الشعرية وهذه الحركات ما بين فتحة وكسرة وضمة، تأتي الفتحة علامة على أواخر الكلمات (راقصاً – مغترباً – مبتعداً – معلقاً – منكمشاً – ممدداً – منتظراً – طالعاً – منشداً – منتظراً – طالعاً – مشدداً – منكمشاً – ممداً – مرتبتة – النهزة – طعنتها – سنابل) وهذه الكلمات تشكل محوراً أساسياً بين محاور المقطع إذ تبين حالة الغائب (عمر) والمتكلم (الشاعر).

        وتأتي الكسرة علامة للجر والإضافة في (جوانب المسجد – في الجانب المعتم والمضئ – بين فواصل السورة – وبين آية وآية من رحم الليل وبيضة النهار – في السقف الأخضر والعرار – في المسجد والعراء والدماء).

        وهي جميعاً تتعلق بالموضوعية والمكان، وتأتي الضمة علامة للرشوة والأعطية.

        فعمر بحالته الشخصية استعارة لإحداث المفارقة مع الشاعر وحالته وإن كان هذا المحور يجمع بين عناصره مفارقة المعتم والمضئ، فقد أسهمت الفتحة في تجسيد حالة عمر وبلورتها، وكانت الكسرة احترازا يبين أنه في كل الأماكن والحالات لا يمكن أن تغيب اليقظة والوعي بالوباء الذي تحدده الضمة وتميزه عن غيره.

        ولا يخفي أنه بدون الحركات الإعرابية هذه لا يمكن تحديد المعنى.

        فالحركة الإعرابية هنا تعد وحدة نحوية مميزة للمعنى لا يستغنى عنه في أواخر الكلمات وتكرارها يؤدي وظيفة دلالية معينة.