حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

مُسلَّمة المجاز التي صُيِّرت قضية.. بقلم أ.د/ محمود مخلوف

أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر

  الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه وكل من والاه …             

     من المهم جداً أن أنبه إلى أن قصدي لم يتوجه قط إلى أن أكون صوت تفرقة بين أفراد طوائف الأمة، أياً كان سبب هذا التفرق لمعرفتي المتيقنة أن هذا ضد ركن الأمة الركين، المنادى عليه من قبل رب العالمين : “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” الأنبياء: ٩٢   

” وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون” المؤمنون: ٥٢

فرتب على ” واحدية ” الأمة أمرين هما : تقوى الله ، وعبادته . فتقوى الله خشية قلبية تملأ المسلم بمراقبة الله، والتهيب في معاملته ـ سبحانه . وشدة مراعاة حرمات كل من كان عبداً لله ـ سبحانه ـ

وعبادة الله : منهج كامل في حسن معاملة الله، ومعاملة عباده المؤمنين، من كل صغير وكبير من أمور الدين والدنيا .

وأعتقد أنه لن يبقى مدخل بعد هذين ينفذ منهما الشيطان وأعوانه لتخريب علاقة أهل القبلة فيما بينهم ..

كما أنبه إلى أن حكايتي مراجعات أهل العلم لابن تيمية ـ رحمه الله ـ متوجهة ـ في الأغلب ـ إلى لفت كثير ممن اقتنع بكلام الشيخ وتعصب له إلا أن هذا التعصب لا يعود على المسلمين بخير، فالشيخ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كان يجتهد في بيان ما ظنه حقاً، وناقش كبار العلماء فيما رآهم قد أخطأوا فيه، وقد وُفِّق الشيخ تقي الدين في هذا أحياناً، وجانبه الصواب في الأكثر ..

ولا شك في أنه ـ رحمه الله ـ كان يتغيا الخير والحق في كل أحواله وأقواله .. والذي فاته أن الشيوخ الذين خالفهم، وقسا في نقدهم كانوا على الحال نفسه، يقصدون بسط وتحقيق ما يرونه حقاً .. وقد كانوا في ـ جملتهم ـ أهل دين، وعلم، وفضل، وصلة قوية بالله وكتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم، وسنته، كما هو كذلك ـ رحمهم الله جميعاً ..

    ولو خلِّصت هذه القضايا من أهواء التعصب المردية لسطع فيها وجه الصواب منكشفاً جلياً .. لكن كبرى البلايا أن جمهرة الذين يعرضون لهذه القضايا نشأوا على عصبية للشيخ تقي الدين ـ رحمه الله ـ أو عليه، ظن الفريق الأول قصد الحق والصواب على أقواله، وفي المقابل أساء الفريق الثاني الظن به لتيقنهم من مجانبة الشيخ الصواب في كبرى مسائله، التي خالف فيها جمهرة العلماء، واحتدت عباراته في حقهم .. ثم صار الأمر لجاجة .. عافانا الله والمسلمين أجمعين ..

  وأنبه ـ ثالثاً ـ إلى أن الذي يقرأ تراث الشيخ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يجب أن يوطِّن نفسه على الصبر الشديد ، والحرص الشديد على جمع النظائر التي تعرض فيها الشيخ لمسألة أو قضية في مواطن متعددة، له فيها فتاوى وآراء يبدو بينها شيء من التعارض، ولا بد من إنعام الفكر في تحديد سياق كلِّ، ومتَّجه الشيخ ومقصده من كلامه في كل موضع ؛ حتى تظهر الحقيقة ..

   فهذا وغيره يفك كثيراً من معضلات ميراث الشيخ ابن تيمية ، الذي لم ينل حظه من تحقيق التلاميذ والأتباع ، مثلما حدث مع كبرى مباحث العلم ومسائله وقضايا في تراث الأئمة الكبار ..

   فما خالف فيه ابن تيمية أئمةَ العلم توقف أقرانه في قبول رأيه واختلفوا معه، واشتد وطيس الاعتراك معه، ومع تلاميذه، وتابعيهم .. ولو حسنت النوايا لفكّت كثير من مشكلات هذه القضايا والمباحث ..

     وأنصح بوجوب أمر يساعد في فك تشابك خيوط هذه القضايا، ألا وهو الرجوع بأحكام هذه القضايا إلى محاضن السادة الحنابلة، فهم أصل ابن تيمية، وهو المعظم لتراثهم ومشايخهم، لا سيما إمامهم المبجل أحمد بن حنبل ـ رضى الله عنه ـ ثم كبار تلاميذه، وكبار رجال المذهب ومحققيه كابن قدامة، والمجد ابن تيمية، جد تقي الدين، وابن مفلح ، وابن رجب ..فغير قليل من مسائل الخلاف وقضاياه نجد رأي السادة الحنابلة على غير رأي الشيخ تقي الدين ، سواء منهم السابقوه أو اللاحقوه ..

      وأعتقد اعتقاداً جازماً أن الأوصاف والأحكام اللاذعة التي كان يصبها الشيخ ابن تيمية على مخالفيه لا يرتضي إطلاقها على كبار الحنابلة الأوائل من سابقيه . خاصة في القضايا التي كانت تشتعل حول أحكام عقديه أو تقارب ..

      من المنطقى جداً أن يكون للشيخ في أحكام المسائل والقضايا التي خالف فيها جمهرة أهل العلم مستند ودليل .. سيما وأنه ـ رحمه الله ـ كان ذا عقل كبير جداً ، وقلم سيّال في عرض أفكاره وآرائه، ولسان ذَرِب في إدارة حواراته ونقاشاته ..

وفي الوقت نفسه ليس من المنطقي الظن أن من خالفهم كانوا ضعاف العقول والحجج، فمسائل ثبوت المجاز في العربية والقرآن، والقدم النوعي للعالم وشد الرحال لزيارة قبره الشريف، ووقوع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة، والتوسل بالنبي وآله، وأحكام التصوف وآدابه … وغير هذا من القضايا والمسائل، التي كان للشيخ فيها فتاوى وأحكام مخالفة لجمهرة أهل العلم كل هذه المسائل كان الحق فيها واضحاً في جانب جمهرة العلماء السابقين ولمعاصريه واللاحقين .. ومن غير المعقول أن يظن أحد غير هذا   !!!    سيما وأن كبار الحنابلة قد كان لهم آراء موافقة للجمهور في معظم قضايا الخلاف ..

     من المهم ، بل الأهم الذي يجب ألا يغيب عن مسلم معاصر هو أن ابتعاث هذه القضايا في زماننا تحت أي لافتة لا يخدم إلا أعداء الإسلام، وخصوم أهل السنة المتربصين بطوائفهم الدوائر .

    فمن المدهش المحيّر أن تتناحر طوائف أهل السنة على قضايا ومسائل تناحراً يصل إلى حدّ التقاتل، وتوارث العداوات المهلكة ، مع اتفاقهم في أكثر أحكام العقائد والعبادات والمعاملات ، بدليل أنهم جميعاً يرجعون إلى مؤلفات واحدة تقريباً في بحوثهم الشرعية واللغوية، بل حول غير قليل من هذه القضايا والمسائل التي دار حولها الخلاف !!  ..

    هذا المدهش يتضاعف العجب منه حين يقارن حال طوائف أهل السنة مع حال طوائف الشيعة وتلاقيهم تحت إمرة إيران في اليمن، ولبنان ، والسعودية ، وسوريا ، وباكستان ، وأفغانستان ، وغيرها على المتفق بينهم، والتغاضي عن نقاط الخلاف الجوهرية  التي تعادوا بسببها مئات السنين هذا فضلا عن تآزر وتساند فرق اليهود، والنصارى، والشيوعيين، والبوذيين، وغيرهم ممن تناسوا ما اختلفوا حوله من الأصول ؛ ليتّحدوا في مواجهة المسلمين من طوائف أهل السنة” المختلفين المتناحرين ” !!! 

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..

وأهمس فى آذان إخواني المتعصبين لآراء الشيخ ابن تيمية : راجعوا تراث السادة الحنابلة في كبرى القضايا التي أثارها الشيخ، وسبّبت التناحر بين طوائف أهل السنة، وأُزهقت بسببها مئات آلاف الأرواح ، وأسيلت بسببها أنهار الدماء ، وانتهكت فيها الأعراض حين تراجعون تدركون أن رأي السادة الحنابلة مخالف للرأي الذي قال به ابن تيمية وأشاعه، وتبنته دول الحركة الوهابية وصنعت به ما صنعت في مائتين وخمسين عاما أو تزيد ..

   راجع آراء السادة الحنابلة في ثبوت المجاز في اللغة والقرآن، وفي جواز التوسل بالنبي وآله ، ومشروعية السفر إلى زيارة قبره الشريف وانعقاد الطلاق الثلاثة بلفظة واحدة ، ووجوب  الوفاء بالنذر ، تجدْ آراءهم قريبة جداً من فقهاء المذاهب الثلاثة ، وكلهم مخالفون لما أثاره الشيخ ابن تيمية من قضايا ، شتّت المسلمين أهل السنة ، وفرقت بينهم .

    كذلك الأمر في فهم نصوص الصفات الخبرية ، تجد تفويض الكيف هو الغالب على كبار الحنابلة مثل إخوانهم الأشاعرة والماتريدية ، على حين تجد أن ابن تيمية يقول بتفويض المعنى فقط ، وأن فهمه لآيات وأحاديث الصفات من الأخذ بظاهر اللفظ يقرِّب من التجسيم التشبيه ، ويدنيه من طائفة “السجزيين”  المجسمة (1) ، أولئك الذين برئ منهم أئمة أصول الدين المسلمين وعدّهم ابن تيمية من ” متكلمي المسلمين !!

     بل إنك لتعجب حينما تجد صدىً قوياً لآراء السجزيين الشاذة ــ التي كفرها عليهم أكثر أئمة أصول الدين ــ في الآراء التي تبناها ابن تيمية في : معنى الاستواء على العرش ، ومماسّته له ، وأن معبودهم محلّ للحوادث ، وأن السماء انفطرت من ثِقل الرحمن عليها ــ سبحانه وتعالى ــ . وأن قول الله حادث وكلامه قديم … الخ مسائل كثيرة ، عدها الأئمة فواقر في العقيدة . ..

    ومن العجب العاجب أن الشيخ ابن تيمية كتب آلاف الصحائف في الرد على الأشاعرة : الغزالي ، والقشيري ، الرازي  ، وغيرهم ، وليس له صفحة واحدة في الرد على فواقر السجزيين .. فتعجبْ من هذا ، وحق لك !!!  .

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu