حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

شبهات لغوية حول القرآن [7]. بقلم أ.د/ إبراهيم عوض

المفكر الإسلامي وأستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب- جامعة عين شمس. (تم النشر بإذن من سيادته))

ونبلغ الاعتراض السابع، وفيه يقول عبدنا الفاضي (الذي يمتلئ كتابه الحقير بالأخطاء النحوية الأولية ثم يأنس في نفسه الوقاحِ الجرأةَ على التهجم على لغة القرآن الكريم رعونةً منه وطيشاً) إن في قوله تعالى في الآية 10 من سورة “المنافقون”: {وانفقوا وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} خطأ نحوياً، إذ كان المفروض (حسبما يقول) أن يُنْصَب فعل الكينونة عطفاً على “أصَّدَق” (ص 108) . وأنا على يقين أنه لا يعرف لم نُصِب هذا الفعل الأخير. إنما هو كلام وُضِع على لسانه فردَده كالببغاء دون أن يعي معنّى أو يدرك مغزى. أجل، أنا موقن تمام الإيقان أنه لا يفهم أن سبب نصب هذا الفعل هو مجيئه بعد “فاء السببية”، لكن فلْنَطْوِ هذه ولنسارع إلى القول بأنه مدام القرآن قد استعمل لفظاً أو تركيباً أو إعراباً ما فهو صواب لا يأتيه الغلط من بين يديه ولا من خلفه حتى لو قلنا إن الرسول عليه السلام هو مؤلفه، فهو عربي تؤخذ عنه اللغة ولا يراجّع في شيء منها، فضلاً عن أن أحداً من المشركين أو المنافقين أو نصارى العرب ويهودهم لم يعترض على شيء من لغة القرآن رغم حرصهم على التشكيك فيه بكل وسيلة.
وعلى أية حال فإن في جَزْم فعل الكينونة في الآية الكريمة مغزى دقيقاً، وهو أن قائل هذا الكلام، رغم تمنّيه تأجيل موته قليلاً، يعلم أن الاستجابة لأمنيته أمر مستبعد، كيف ذلك؟ المعروف أن “إنْ” الشرطية تدل على استبعاد وقوع الشرط أو استحالته، ومعنى الكلام على أساس جزم “أكُنْ” هو: “لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّق، وإن حدث هذا أكن من الصالحين”. أي أنه يعرف أن تأخير موته إلى أجل قريب هو من الاستحالة بمكان. ألم يقل القرآن: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ؟ ألم يكن جواب الله على من سأله الخروج من النار والرجوع إلى الدنيا لعله يعمل صالحاً ينجيه مما هو فيه من عذاب النار: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ؟ ألم يعقّب القرآن على من نطقوا بكلمة الإيمان في سَقَر قائلاً: “أنَّى لهم التناوش (أي كيف يمكنهم أن يفوزوا بالإيمان) من مكان بعيد (أي بعد أن انقضت الدنيا ولم يعد من سبيل إلى تدارك ما فات) ؟ “؟ وعلى عادة القرآن الكريم نراه قد أدّى هذا المعنى بغاية الإيجاز، إذ لم يفعل أكثر من تسكين نون “أكون” بدلاً من فتحها. وهذه هي الفحولة القرآنية المعروفة، أما الصغار التافهون فأنَّي لهم أن يفهموا ذاك؟
هذا، وللقدماء توجيه آخر يختلف بعض الشيء عن توجيهي، إذ يقولون إن “أكُنْ” قد جُزِمَتْ عطفاً على موضع “فأصَّدَّقَ” على أساس أن تقدير الكلام هو: “إن تؤخرني أصَّدَّقْ”. وهو توجيه مشكور ومقدور، لكن ما قلتُه يذهب إلى الهدف مباشرة دون التعريج هنا أو ههنا، علاوة على أني شفعته بالمغزى الذي أحسب أن الآية قد أرادت الإيماء إليه ولم أسَّقْه مجرداً كما فعل أجدادنا، – رضي الله عنهم – وأثابهم على جهودهم وسبْقهم. وتتمةً لهذا المبحث نقول لمن يريد أن يتعلم ويفهم إن طريق الإعراب، وبخاصة قبل جمع اللغة وتدوينها، أوسع كثيراً مما يُظَنّ: فمثلاً في قولنا: “لا تأكل السمك وتشرب اللبن” نجد أن الفعل “تشرب” يجوز فيه الرفع والنصب والجزم، وفي قولنا: “لا حول ور قوة إلا بالله” يجوز في إعراب اسم “لا” والمعطوف عليه عدد من الصُّور تزيد على عدد أصابع اليد، وفي قولنا: “ما كلُّ ما يلمع ذهباً” يجوز رفع الخبر ونصبه … وهكذا، إلا أن المحدودي الأفق يتفلحسون فيوقعون أنفسهم في المعاطب! وبالمناسبة فثَمً قراءة أخرى بنصب “أكون”، وكلتا القراءتين عربية بليغة، وكل ما في الأمر أن لكل منهما مغزى غير الذي للأخرى.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu