زعم الحاقدون على العربية الفصحى أنها لغة صعبة في الممارسة، معقدة في التركيب، فهي عاجزة في الاتصال اللغوي بين جماهيرها، وأصبحت عائقا في التقدم الحضاري للشعوب الناطقة بها، وعدم إلحاقها بركب الحضارة، ومجاراة الأمم الأخرى في رقيها وازدهارها.
ولكن العربية على عكس من ادعاء هؤلاء الحاقدين، الذين رمَوْها بالجمود والتخلف زورا وبهتانا، ” فهم يريدون عزل العربية في أضيق دائرة ممكنة، تمهيدا للقضاء عليها، وهجرها أو خلطها بالعامية أو اللغات الأجنبية، هذه الدعوة حمل لواءها منذ فترة طويلة، المعادون للإسلام وأهله، فادعوا أن إعراب العربية الفصحى، أمر عسير التعليم، ليصرفوا المسلمين عن منبع دينهم، وعماد شريعتهم، ودستور حياتهم، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله “عز وجل”، وهذا الإعراب الذي يوصف بأنه معقد وصعب، لا تنفرد به العربية الفصحى وحدها، بل هناك لغات كثيرة لا تزال تحيا بيننا، وفيها من ظواهر الإعراب المعقد، ما يفوق إعراب العربية بكثير، فاللغة الألمانية تقسم أسماءها اعتباطا إلى مذكر ومؤنث، وجنس ثالث لا تعرفه العربية، وهو “المحايد” وتضع لكل واحد من هذه الأجناس الثلاثة، أربع حالات إعرابية، هي: الفاعلية، والمفعولية، والإضافة، والقابلية، وهذه الحالة الأخيرة لا تعرفها العربية، وهي إعراب المفعول الثاني، فهي من حالات المفعولية في العربية، وليست حالة خاصة فيها، تلك هي حالات الاسم المفرد في الألمانية.
فهذه المحاولات الادعائية تعمل على مسخ العربية الفصحى وتغيير معالمها، وهناك من يشكو من كثرة صيغ جموع التكسير في العربية، وغلبة الشذوذ على هذا الجمع فيها، وهذا يحمد للعربية الاطراد النسبي في هذه القواعد، ولو قارن هؤلاء بين العربية والألمانية ففي الألمانية كثرة صيغ هذا الجمع أيضا”.([1])
فليست العربية بدعا بين هذه اللغات في صعوبة القواعد، ولكن مكمن الصعوبة يعود إلى طريقة عرض النحويين لقواعدها، فقد خلطوا في هذه القواعد بين الواقع اللغوي والمنطوق العقلي، وبعدوا عن وصف هذا الواقع إلى المماحكات اللفظية، وامتلأت كتبهم بالجدل والخلافات العميقة، فَضلَّ المتعلم وسط هذا الركام الهائل من الآراء المتناقضة في بعض الأحيان، والحقيقة أن القواعد الأساسية لنحو اللغة العربية، يمكن أن يستخلص في صفحات قليلة، مصفاة من هذا الحشو، الذي لا طائل وراءه.([2])
فهذه دعوة صادقة للإصلاح والتيسير في مجال النحو والبعد عن غلو النحاة وفلسفتهم، وهي دعوة قديمة، تمثلت في المحاولة التي قام بها ابن مضاء في كتابه (الرد على النحاة)، وكذلك في محاولة (تجديد النحو) للدكتور شوقي ضيف.([3])
إن الحاقدين الذين رموا العربية بالصعوبة في تعلم قواعدها، والتعقيد في تراكيبها وجملها على ضلال؛ لأن هذه الصعوبة تكمن عند هؤلاء في عدم ممارستهم للعربية، وعدم تعلمهم لقواعدها، ويحاولون أن يصرفوا أبناء العربية عنها وعن منبع دينهم ودستور حياتهم، ويرغبونهم في العامية واللغات الأجنبية، فهم يريدون هجر لغتهم، والخلط بينها وبين العامية وما دخل إليها من ألفاظ أجنبية، حتى يصلوا إلى مقصدهم، وهو صرف المسلمين عن القرآن الكريم، الذي هو منبع دينهم، ومقصد شريعتهم.
وقد اعترف المستشرق “جوستاف لويون” في كتابه حضارة العرب أن العربية تمتلك في حلقات تطورها خيوطا واضحة من الانسجام، وأنها من أكثر اللغات انسجاما.
ولو نظرنا إلى دراسة علماء العربية الذين درسوا العربية، ووضعوا لها القواعد لم يتأثروا بلغات أجنبية، فالخليل بن أحمد كان عربي، اعتمد في دراسته على كلام العرب الفصحاء ومشافهتهم في اللغة، ولم يستعن في دراسته ووضعه لقواعد العربية بلغات أخرى، ولم يرو عنه بأنه تعلم لغة غير العربية، وليس له صلة أو معرفة باليونانية، وكذلك سيبويه تلميذ الخليل_ على الرغم من أنه فارسي الأصل_ لم يتأثر في دراسته اللغوية بالفلسفة ولا بلغته الأصلية (الفارسية) وإنما كان متأثرا بالنقل عن العرب الفصحاء، وأستاذه الخليل، ووضعوا القواعد واستنبطوها من النصوص العربية الفصيحة التي سمعوها من العرب الفصحاء. ولكن الذي أدى إلى الصعوبة في دراسة نحو العربية هو دخول الفلسفة إلى الدراسات العربية في القرن الرابع الهجري، أما قبل ذلك التاريخ، فالعربي لم يربط لغته بالفلسفة، بل كان ينطق بما توحيه له طبيعة العربية، وسليقته التي خلقه الله عليها.([4])
=================
([1]) انظر: فصول في فقه العربية. رمضان عبدالتواب ص 416،415، ومجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة . العدد الثالث عام 1985 ص 248 بحث للدكتور عبدالمنعم عبدالله محمد بعنوان : الفصحى ودعاوى الخصوم .
([2]) راجع فصول في فقه العربية ص 417.
([3]) انظر: كتاب الرد على النحاة لابن مضاء القرطبي. تحقيق. د. شوقي ضيف. ط. الثانية دار المعارف 1982م، وتجديد النحو. د. شوقي ضيف. ط. الثانية. دار المعارف 1986م.
[4])) انظر: علم اللغة بين القديم والحديث. د. عبد الغفار هلال ص325-335.