حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

توثيق النص القرآني بالكتابة [2] بقلم أ.د/ عبد التواب الأكرت

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم السابق بكلية اللغة العربية بالقاهرة ومقرر اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر

ثانيًا : كتابة القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه:

جُمع القرآن في عهد الخليفة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بعد موقعة اليمامة سنة اثنى عشرة للهجرة، والسبب في ذلك؛ أن القتال حينما اشتد بين المسلمين وأهل الردة في موقعة اليمامة، وقضى أبو بكر- رضي الله عنه ـ على هذه الفتنة، وفي هذه الموقعة استحرّ القتل في الصحابة، واستشهد خلق كثير من حفاظ القرآن الكريم، ففزع الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ وأشار على أبي بكر بأن يجمع القرآن في موضع واحد.

وعن ذلك روى الإمام البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: أُرسل إلى أبو بكر الصديق مَقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ :إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك رأي عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير, فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب. واللِّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خذيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمرَ في حياته، ثم عند حفصة بنت عمر» ([1]) .

والفرق بين كتابة القرآن في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أن كتابته في عهد الرسول كان مُفَرَّق الآيات والسور، وأول من جمعه في صحف مرتبة الآيات والسور ـ كما رويت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر, قال أبو عبد الله الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن:

«كتابة القرآن ليست بمحدَثة، فإنه – صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقًا في الرِّقاع والأكتاف والعُسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعًا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن منتشرًا، فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء.

فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي – صلى الله عليه وسلم- عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونًا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه» ([2]) وامتازت كتابة المصحف في عهد أبي بكر بأنه اقتصر على ما لم تُنسخ تلاوته، وجرَّد منها كل ما ليس قرآن، ولم يقبل فيها إلا ما أجمع الجميع على أنه قرآن وتواترت روايته، كما أنه كتب بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، يضاف إلى ذلك أنه كان مرتب الآيات والسور على الوضع الذي نقرؤه اليوم ([3]).

وقد كتب القرآن الكريم في هذه الجمعة البكرية في الصحف كما دلت على ذلك الأخبار الصحيحة، «فقد روى ابن وهب, عن مالك, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى، حتى استعان عليه بعمرَ ففعل» ([4])

وقال ابن حجر: ووقع في رواية عمارة بن غزية، أن زيد بن ثابت قال: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم والعُسُب، فلما توفي أبو بكر، وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده.

قال ابن حجر معلقًا على هذه الرواية: والأصح إنما كان في الأديم والعسب أولًا قبل أن يجمع في عهد أبي بكر، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة ([5]).

كانت الكتابة قبل الجمع البكري وقفًا على الرق (جلد رقيق يكتب فيه) وألوان أخرى من العظام والعُسب والأحجار، وكانت مصر هي المصدر لورق البردي، تصنع منه القراطيس، والطوامير ويكون طول الواحد ثلاثين ذراعًا وأكثر في عرض شبر، وظلت مصر لمدة طويلة من الزمن تورد ورق البردي .. لكن ورق البردي مهما كانت سبل تيسيره فإنه لم يكن يتأتى لكل الناس الحصول عليه، وكان الصينيون في القديم أول من ابتدع الورق المعروف في زماننا هذا ومُهْر في صناعته ([6]).

وقد ورد أن الذي اشترك مع زيد بن ثابت في الجمع البكري عمر بن الخطاب، فقد ذكر ابن حجر عن ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة, عن أبيه: أن أبا بكر قال لعمرَ ولزيد: أقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه([7]).

وروي أيضًا في بعض الروايات أن أبي بن كعب اشترك في هذا الجمع البكري بالإملاء، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب ([8]).

واستغرق الجمع البكري هذا ما يقرب من سنة، فقد كان هذا الجمع بين غزوة اليمامة التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة أو الأولى من السنة الثانية عشرة، وبدأ الجمع بعدها، وبين وفاة أبي بكر الصديق التي كانت في جمادي الأخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، ولاشك أنه اكتمل قبل وفاة الصديق رضي الله عنه، إذ إن الروايات تذكر أن الصحف أودعت عنده بقية حياته، ثم انتقلت إلى الخليفة الجديد من بعده، ثم إلى السيدة حفصة ابنته أم المؤمنين رضي الله عنها، حتى طلبها سيدنا عثمان فنسخ منها المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار ([9]).

=================================

([1]) انظر: فتح الباري: 9/10, 11, كتاب المصاحف: 8, 9.

([2]) الإتقان: 1/78.

([3]) في رحاب التفسير: 1/42.

([4]) كتَّاب المصاحف للسجستاني: ص9، الإتقان: 1/78.

([5]) الإتقان: 1/78.

([6]) انظر: وثاقة نقل النص القرآني. د. محمد حسن جبل: ص187, 188، وراجع: مصادر الشعر الجاهلي: ص88 وما يليها.

([7]) فتح الباري: 9/14.

([8]) المصاحف: ص9ـ30, وراجع ذلك التفصيل في: وثاقة نقل النص القرآني د.جبل: ص175 وما يليها.

([9]) السابق: ص187.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu