لاشك أن الأصوات الشديدة تحمل صفة القوة في مقابلة الأصوات الرخوة التي تحمل صفة الضعف، وقد ترد الكلمة في سياق تحمل بين أصواتها صوتاً شديداً وترد في سياق آخر تحمل بين أصواتها صوتاً رخواً، ولكل منهما دلالته، فيأتي الصوت الشديد للمعنى الشديد، بينما يأتي الصوت الرخو للمعنى الضعيف، وقد جاء شيء من هذا القبيل في القرآن الكريم، يشعر به المتأمل، و يدركه المتفحص لمرامي النسق القرآني، فمثلاً قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)[1]، وقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[2]، تجد في الآيتين كلمتي الأز والهز، يجمعهما معنى عام واحد ويفرق بينهما وجود الهمزة في كلمة والهاء في الأخرى، ونظراً لما تتميز به الهمزة من شدة اختاروها للمعنى القويّ، واختاروا الهاء المهتوتة للمعنى الضعيف، فالهمز معناها التحريك، أما الأزّ فهو التحريج والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر الأزيز[3]، وقد بين الراغب قوة الدلالة في أز فقال: “وأزه أبلغ من هزّه، وقوله تعالى: ﭽﮋ ﮌﭼ أي ترجعهم إرجاع القدر إذا أزّت، أي اشتد غليانها”[4]. ومنه أيضاً اختيار النسق القرآني لكلمتي الرِّدْء، والرِّدف، فكلاهما بمعنى التابع، إلا أن الردّء هو الذي يتبع غيره معيناً له، ومنه قول موسى في حق هارون عليهما السلام (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي )[5]، والردف يقال في التابع فقط[6]، ومن ذلك قوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[7]، فاختاروا المعنى القويّ للهمزة الشديدة، والمعنى الضعيف للفاء الرخوة، ومنه أيضاً كلمتا الأََمَد والأبد، فالأولى للزمن المقيد، والثانية للزمن المطلق الممتد الذي لا يتجزّأ وقد عبرّ القرآن بالأبد في مثل قوله تعالى عن أصحاب الجنة: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[8]، وعبر بالأمد في قوله تعالى: (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[9]، فاختاروا الباء الشديدة للزمن المطلق، والميم الرخوة للزمن المقيد، وهكذا تجد كثيراً من هذه الأمثلة يطول استقصاؤها في هذه العجالة.
===========================
[1] مريم آية 83
[2] مريم آية 25
[3] ينظر الضوء المنير 4/74
[4] المفردات ص 25 ، 26
[5] القصص آية 34
[6] المفردات ص 199
[7] الأنفال آية 9
[8] النساء آية 57
[9] آل عمران آية 30