Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

عشر فوائد عن رسالة (أفراد كلمات القرآن العزيز) لابن فارس.. بقلم أ.د/ عصام فاروق

(أفراد كلمات القرآن العزيز) رسالة موجزة في لفظها، عظيمة النفع في بابها، من رسائل الإمام أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب، القزويني، الرازي (395ه)، وهذه فوائد عشرة عنها:

الأولى:

تنتمي هذه الرسالة إلى الدراسات اللغويَّة القرآنيَّة؛ أي التي تُعنى بالألفاظ القرآنيَّة خاصة، مع بيان معانيها، واستجلاء أسرارها، أراد ابنُ فارس – عليه سحائب الرحمة والرضوان- أن تكون زادًا يُستعان به في المذاكرة، والمطالعة السريعة لبعض ألفاظ القرآن ومعانيه؛ ولذا جاءتْ الرسالةُ بهذه الصيغة الموجزة، في مبناها، كما أن الإيجاز تسرب كذلك إلى سبيل إيضاح معانيها، واستشهاداتها، واكتفى ابنُ فارس في هذه الرسالة بأربعة وثلاثين موضعًا من الأفراد في القرآن الكريم.

الثانية:

تعني كلمة (الأفراد) الواردة في عنوان الرسالة (( في اللغة جمع فَرْد، وهو الذي لا نظير له. وأما في الاصطلاح فالأفراد هي الألفاظ التي لا نظير لها، فهي متوحدة فيما تدل عليه من معنى، بعكس الألفاظ ذات المعاني المتعددة الوجوه. )) كما ذَكَرَ د. حاتم الضامن – محققُ الرسالة- [ينظر: أفراد ألفاظ القرآن العزيز 5]

فاللفظ في القرآن الكريم له معنى عام يسري في كيان المواضع جميعًا، ويؤيده سياقُها، لكنّ هناك موضعًا – أو موضعين- ينفرد بمعنى مختلفٍ عن المعنى العام ويختص به، ومن ذلك أنّ (البروج) في القرآن كله بمعنى (الكواكب) إلا في موضع النساء ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [آية 78] فهي بمعنى: (القصور الطوال).

وقد يرد ذلك المعنى في موضعين، من ذلك (البكم) في القرآن كله هو (الخرس عن الكلام بالإيمان)، إلا في موضعين: قوله تعالى:﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ﴾ [الإسراء 97]، وقوله تعالى:﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ [النحل 76] فهو عدم القدرة على الكلام.

الثالثة:

تعد هذه الرسالة أول مُصنَّفٍ مستقلٍ في (الأفراد) بهذا المفهوم، كما أن لها علاقة وثيقة بـ(الوجوه والنظائر) فإذا كانت الوجوه والنظائر تعني (( أن تكون الكلمةُ واحدةً، ذُكرت في مواضع من القرآن، على لفظٍ واحدٍ، وحركةٍ واحدةٍ، وأريد بكل مكانٍ معنى غير الآخر، فلفظُ كلِّ كلمةٍ ذُكِرَتْ في موضع، نظيرٌ للفظ الكلمة المذكورة في الموضع الآخر هو النظائر، وتفسيرُ كلِّ كلمةٍ بمعنى غير معنى الآخر هو الوجوه. إذن النظائر: اسم للألفاظ، والوجوه: اسم للمعاني )) [مقدمة تحقيق الوجوه والنظائر في القرآن العظيم لمقاتل بن سليمان 7]

أقول إذا كان معنى (الوجوه والنظائر) كذلك؛ فإن (الأفراد) تمثل نظيرين لوجهين أحدهما: منفرد بموضع أو موضعين، في مقابل الآخر: سائر في ثنايا الكتاب الكريم، ويمكننا  بذلك القولُ: إن علاقة (الأفراد) بـ(النظائر والوجوه) هي علاقة الخاص بالعام.

ولهذه العلاقة الوثيقة فقد ذكر الإمام الزركشي (794ه) الأفرادَ ضمن النوع الرابع المعنون بـ(جمع الوجوه والنظائر) [ينظر: البرهان1/191- 195]، ونقلها عنه السيوطي (911ه) في النوع التاسع والثلاثين المعنون بـ(في معرفة الوجوه والنظائر) [ينظر: المزهر 1/201]

كما أن (الأفراد) لها علاقة بـ(الكليات القرآنية)، من حيث إنَّ الوجه المنفرد يعد خرقًا لهذه الكليات – أو استدراكًا عليها- إن أريد بها حقيقة الكليات وشمولها، أو ما يستثني منها، ويخرج عن عمومها، إن أريد بها التوسع والتجاوز في التعبير.

كما أن تأويل المواضع قد يتحكم في احتساب الموضع من الكليات أو من الأفراد، فإن كان تأويل الموضع مختلفا عن المعنى العام للفظ في القرآن كله عُدّ ذلك من الأفراد، وإن كان تأويله متفقًا مع المعنى العام احتسب ذلك كله من الكليات.

فعلى سبيل المثال من فسَّر (البخس) في قوله تعالى: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ [يوسف 20] بالحرام، عدّ من الأفراد، لكون المعنى في المواضع الأخرى هو النقصان، ومن فسّر البخس في هذه الآية بمعنى النقصان، احتسب من الكليات، المقول فيها: كل بخس ورد في القرآن الكريم فهو النقصان.. وهكذا.

الرابعة:

تسيطر النظرة التركيبية – القائمة على تجميع الجزئيات لتكوين كليات- على عقلية الإمام ابن فارس اللغوية، وقد ظهرتْ آثارُها واضحةً في هذه الرسالة، حيث يذكر المعنى العام للفظ- أو الجذر- السائر في القرآن الكريم كله، ويتبعه بالموضع المنفرد عن ذلك المعنى العام، وهذا يذكرنا بفكرة (المقاييس) التي طبقها في معجمه (مقاييس اللغة) والتي يذكر فيها المعنى المحوري من خلال أصل – أو أكثر – يدور حوله المعاني الجزئية التي للمشتقات والمداخل المعجمية، عن طريق تجميع الجزئيات ووضعها تحت إطار معنوى عام يشملها.

الخامسة:

لما كان مقصدُ ابن فارس من رسالته أن تصلح للمذاكرة، وأرادها موجزةً سرى هذا الإيجاز في مكونات الرسالة كلها.

فأما على مستوى شرح المعاني نجده اعتمد في أغلبها على طريقة ذِكْر لفظ قريب المعنى، من مثل تفسيره: الأسف بالحزن، والبروج بالكواكب، والبخس بالنقصان، والبعل بالزوج….إلخ

وإن اعتمد على الشرح بالعبارة تجدها موجزةً كذلك، من مثل، تفسيره السكينة بطمأنينة في القلب، والصلاة بعبادة، ودعاء، ورحمة.

وأما على مستوى الاستشهادات غير القرآنية فلم يذكر سوى بيتٍ شعريٍّ واحدٍ لسحيم بن وثيل الرياحي (60ه)، أنشده إياه أبوه فارس بن زكريا (369ه)، وكان الأبُ فقيهًا شافعيًّا، متبحرًا في العلوم.

كما أن هناك مواضع لم يستشهد فيها استشهادًا قرآنيًا على المعنى العام، من مثل مواضع: (الريب- الزور- الصلاة).

السادسة:

أراد ابنُ فارس أن يترتب المواضع بحسب ألفاظها على الطريقة الألفبائية، مراعيًا الحرف الأول دون ما سواه، مع عدم اعتماده على طريقة واحدة في اعتبار أصالة الحروف أو فرعيتها، ففي حين أورد كلمة (المصباح) في الميم، أورد (أصحاب الجنة) في الصاد، ولذا جاءت ألفاظ الرسالة بحسب هذا الترتيب:

الألف: (الأسف)، الباء: (البروج- البر والبحر- البخس- البعل- البكم)، الجيم: (جثيًّا)، الحاء: (حسبان وحساب- حسرة)، الدال: (دحض)، الراء: ( رجز- ريب- رجم)،الزاي: (زور- زكاة- زيغ)، السين: (سخر- السكينة- السعير)، الشين: (الشيطان- شهداء)، الصاد: (أصحاب الجنة- صلاة- الصمم)، العين: (عذاب.)، القاف: (قانتون)، الكاف: (كنز)، الميم: (مصباح)، النون: (النكاح- النبأ والأنباء)، الواو: (الورود)، الياء: (يكلف- يئس).

لكنه أضاف في نهاية الرسالة مواضع (الصبر) ويبدو أن هذا الموضع أضافه أخيرًا بعد ما ذَكَرَ المواضع السابقة كلها، ولعله أراد أن يجمع أولًا مواضع أخرى للأفراد في نهاية الرسالة، ثم يضعها في مكان الألفبائي الصحيح، لكنه لم يُمهل لتحقيق ذلك، وهو الوضع نفسه الذي وجدته من خلال قراءتي الكاملة لـ(مقاييس اللغة) ففيه تقديم لبعض المواد على بعضٍ، وكذلك هناك إحالات على غير محالٍ؛ مما دلني على عدم مراجعة المعجم كذلك من قِبَلِ ابن فارس.

السابعة:

ذكرتُ من قبل أن الإمام ابن فارس اكتفى في هذه الرسالة بأربعة وثلاثين موضعًا من الأفراد في القرآن العزيز، لكنّ هناك الكثير من المواضع التي يمكن استدراكُها عليه، منها عشرة مواضع أوردها الزركشي – عن غير ابن فارس- بعد سرده مواضع هذه الرسالة، كما أنَّ هناك إضافاتٍ أخرى وقفتُ عليها عند غير ابن فارس وزيادات الزركشي، سأذيل بها شرح هذه الرسالة عند طباعتها قريبًا إن شاء الله تعالى.

الثامنة:

حاولتُ تقريب هذه الرسالة في مجلسٍ علمي استمر – بفضل الله وتوفيقه- حوالي الساعتين، واعتمدتُ في هذا التقريب على محاور أساسية، هي:

– فحص المعنى اللغوي العام (المعجمي) للفظ من خلال (مقاييس) ابن فارس؛ لبيان مدى موافقة الواقع اللغوي لكلا المعنيين (العام والأفراد)، فعلى سبيل المثال هل يؤيد الواقع اللغوي من خلال معنى جذر (ب. ر. ج) دلالتَه على معنيي: الكواكب، والقصور أوْ لا؟

– هل وافق كلامُ ابن فارس ما أورده أصحاب الوجوه والنظائر أوْ لا؟

– بيان قرائن السياق – سواء اللغوي (الداخلي) أو غير اللغوي (الخارجي)- المؤيدة للمعنى المنفرد، فعلى سبيل المثال: ما قرائن السياق في دلالة (البروج) على القصور في قوله تعالى:﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ﴾ [النساء 78]، منفردًا عن مواضع اللفظ الأخرى في القرآن التي يدل اللفظ فيها على معنى: الكواكب؟

التاسعة:

نَشَرَ الأستاذُ/ أحمد فرحات هذه الرسالة بتحقيقه في مجلة الدراسات الإسلامية في إسلام آباد عام 1983م، وحققها كذلك د. حاتم الضامن، ونشرتها له دار البشائر- دمشق، عام 1423ه-2002م، وقد اعتمد فيها على نسخة نفيسة بدار المخطوطات اليمنية، تقع في ثلاث ورقات، من مجموع رقمه 208، وهي غير مُؤرَّخة، لكن الناسخ أشار في آخرها إلى مقابلتها على الأم المنقول منها، كما اعتمد د. الضامن ما أورد الزركشي أصلًا ثانيًا. [ينظر: مقدمة تحقيق أفراد كلمات القرآن العزيز 6] وهذه هي الطبعة التي اعتمدت عليها في تقريب الرسالة.

العاشرة:

هذا موضع من مواضع الرسالة، بشرحه:

يقول ابن فارس:

(وَكُلُّ مَا فِي القُرآنِ مِن ذِكْرِ: البُروجِ، فَإِنَّها الكواكب، كَقولِه تَعالَى: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾ [البروج: 1] إلَّا الَّتِي فِي سُورةِ النِّسَاء:﴿ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ﴾ [النساء: 78] فَإِنَّها القُصُورُ الطِّوَالُ المُرتَفِعَةُ في السَّماءِ الحَصِينةُ.)

وردت هذه الكلمة في القرآن العزيز في أربعة مواضع؛ اثنان منها ذكرهما ابن فارس في النص السابق إضافة إلى:

– قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الحجر 16]

– قوله تعالى:﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان 61]

والواقع اللغوي يؤيد دلالة الكلمة على المعنيين، من حيث إن واحدًا منهما أصلٌ للآخر؛ يذكر صاحبُ (المقاييس) أن الأصل الثاني لمادة (ب. ر. ج) هو الوَزَرُ والملجأ، ومنه البرج واحد بروج السماء، وأصل البروج الحصون والقصور. [ينظر: المقاييس (ب. ر. ج)]

ويذكر الدامغاني مادة (ب. ر. ج) في القرآن الكريم تأتي على ثلاثة أوجه: النجم، والقصر –كآية النساء- والوُسْع، والأخير ورد في قوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الآية: 33]، ينظر: قاموس القرآن (66).

ويرى الأصفهاني أنَّ (( قوله تعالى:﴿ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ﴾ [النساء (78)] يصح أن يراد بها: بروج النجم، ويكون استعمال لفظ (المُشَيَّدة) فيها على سبيل الاستعارة، وتكون الإشارة بالمعنى إلى نحو ما قال زهير:

ومَن هابَ أَسبابَ المنايا ينَلْنَه :: ولَو نالَ أَسبابَ السَّماءِ بسُلَّمِ

وأن يكون البروج في الأرض، وتكون الإشارة إلى ما قال الآخر:

ولو كنتُ في غُمدانَ يحرس بابه :: أراجيلُ أحبوش وأسود آلِفُ

إذا لأتتني حيث كنت منيتي :: يخبُّ بها هادٍ لإثرى قائف)) [المفردات (115)]

ولعل استشهاد الأصفهاني مبني على اختلاف المفسرين حول كلمة (البروج) على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها القصور، وهو قول مجاهد، وابن جريج.

والثاني: أنها قصور في السماء بأعيانها تسمى بهذا الاسم، وهو قول السدي والربيع.

والثالث: أنها البيوت التي في الحصون، وهو قول بعض البصريين. [ ينظر: النكت والعيون (1/ 508)]

لكنَّ فاحص السياق القرآني المحكَم، يجد تماهيًا واضحًا مع ذلك التفرد الذي ذكره ابن فارس لآية النساء، فمن الملاحظ ارتباط لفظ البروج – في دلالته على الكواكب في المواضع الثلاث الأخرى : (الحجر، والفرقان، والبروج)- بذكر السماء قبلها، وهو ما لم يتحقق في موضع (النساء)، بل ذُكرتْ كلمة (مُشَيَّدة) للدلالة على إرادة الحصون والقصور.

والأولى عندي، أن يختص قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ﴾ بدلالة البروج على القصور دون الكواكب؛ اعتمادًا على السياق اللغوي القرآني من خلال مصاحبة (التشييد) في القرآن لـ (القصر)، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ [الحج 45]

ولا شك أن الاعتماد على النظير القرآني القائم على ثنائية: (اللفظ والمعنى) معًا، أولى من الاعتماد على شاهد شعري على المعنى فحسب كما فعل الأصفهاني.