من متابعتي للحالة الثقافية العربية أجد بلبلة وعشوائية وفوضى وفردانية في استعمال المفاهيم والاصطلاحات؛ فكل قطر عربي له لغته الإعلامية والعِلْمية التي تكاد تكون خاصة، بل وصل الأمر إلى بعض الأفراد، فنجد منهم من يريد أن يُحدث لنفسه جاذبيةً وحضورًا عند العامة من القراء، فيستخدم مفاهيم خاصة به فقط ويحاول أن يسوِّق لها ويبرِّرها ويشوِّهَ ما عداها! ومن ثم نجد كثرة في المفاهيم والاصطلاحات المكررة، وغموضًا إن لم يكن إبهامًا في عرضها! وبعضهم يلجأ إلى المصطلح الإفرنجي ويرفض المقابل العربي الأصيل، فيقول: (النقد السوسيولوجي)، ولا يقول: (النقد الاجتماعي)، ويقول: (النقد الإستاطيقي)، ولا يقول: (النقد الجمالي)! ويقول: (الكولاج)، ولا يقول: (التلصيق الفني)، ويقول: (الأنثربولوجي)، ولا يقول: (علم الإنسان)!..إلخ. وتجد في كل قطر لفظة خاصة للمصطلح الواحد؛ فمصطلح(Linguistics Linguistique) يترجم في أقطارنا العربية إلى: علم اللغة، علم اللغة العام، علم اللسانية، اللسانية، اللسانيات، اللغويات، الألسنية… وجاء في قاموس اللسانيات للأستاذ عبدالسلام المسدي أن هذا المصطلح نُقل إلى العربية بـ ثلاثة وعشرين مصطلحًا! ومصطلح( Archaeology Archéologic) يترجم إلى:
علم الآثار، علم القديم، علم الأثريات، علم العاديات، علم الآثار القديمة، علم الوثائق القديمة، أركيولوجيا….إلخ وهذا من العشوائية العربية المعاصرة ومن أدلة التشرذم العربي الآني، وهذا هو التفيهق والتشدق المنهي عنه في قول النبي-صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا: الثَّرثارون المُتفيهِقون المتشدِّقون”، والذين وصفهم شراح الحديث بأنهم الذين يتَوسَّعون في الكلامِ ويَفتَحون به أفواهَهم وهذا لكِبْرِهم ورُعونتِهم، ويكثِرون الكلامَ ويتَكلَّفون فيه، والَّذين يتكلَّمون بمِلْءِ أشداقِهم تَفاصُحًا واستعظامًا لكلامِه، و يتَكبَّرون على النَّاسِ بكَلامِهم وبالاستِعلاءِ عليهم بفَصاحتِهم في أقوالِهم وبيانِ عَظمتِهم في أفعالِهم! وهذا ما حذر منه بشر بن المعتمر في صحيفته: “وإياك والتوعّر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيَك، ويُشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريمًا؛ فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعُودُ من أجله أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما”. وهذا التوعر والتفيهق والتشدق بالمفاهيم الأعجمية والمصطلحات الدخيلة هو الانكسار الحضاري، والتذويب الثقافي المقصود إيقاعنا في متاهاته وغياباته!
وهذا يقتضي بدءًا بيان المقصود من المفهوم، فهو الفكرة الذهنية التي تدل على أهم عناصر الشيء وسماته، وتميزه عن غيره، قال أبو البقاء العكبري(ت1094هـ) في كتابه الكليات: هو الصورة الذهنية، سواء وضع بإزائها الألفاظ أو لا”، وفي المعاجم اللغوية الحديثة نجد المفهوم يعرف بأنه معنى، فِكْرة عامة، مجموع الصفات والخصائص الموضحة لمعنى كُلِّيّ، ويقابله الماصَدَق .وأن المفهوم، في الفلسفة والتصوُّف، هو شيء يُفهم فقط من خلال العقل وليس بالحواسّ، وتستخدم لفظة المفهوم في استعمالنا الإعلامي المعاصر بهذا المدلول فيقال: هناك اختلاف حول مفهوم القوامة، الشهامة، الحريّة، الثورة، الجهاد، المقاومة، ويقال في الترجمة لشخص: كان له مفهوم مُختلف في السياسة، وفي الاستعمال الأدبي يقال: مفهوم النصّ أو الكلمة أو المقال أو الكتاب، أو مفهوم المصطلح!
تصنيف المفاهيم:
والمفهوم ينقسم حسب الاستعمال له في وسط المثقفين إلى:
1- (مفهوم أصيل):
نابع من التراث العربي، ومعبر عن الهوية العربية المتسربلة بالحضارة الإسلامية وهذا بادٍ بجلاء في علوم الشريعة وأصول الدين والعربية الأصيلة كما صاغها أسلافنا، حيث تجد مفاهيم: الصلاة، والزكاة والحج والصيام، والتفسير، والتوحيد، والدعوة والحديث والسنة، والفاعل والمبتدأ والعروض، التراث، الأصالة، الأمة، الجهاد، التجديد،…إلخ .وللأسف توجد مؤامرة مدبرة لتشويه هذه الاصطلاحات وتحريفها، بل وشيطنتها، والتنفير والتحذير من بعضها!
2- (مفهوم معادٍ):
نابع من ثقافية متفرنجة تحاول فرض هيمنتها على وطننا العربي بتغريبه وتذويب هويته، والقضاء على مرجعيته الإسلامية. ومن ذلك مفهوم (الإرهاب) الذي يريد أعداؤنا جعله تهمة توجه إلى الإسلام وأهله بكل ما أوتوا من وسائل إعلامية وثقافية داخل وطننا العربي الكبير حيث يقال: الإرهاب الإسلامي، المسلمون الإرهابيون، أو المسلمون الإرهابيون!، ومفهوم (الأصولية) التي تدل في الثقافة الغربية على تشدد ديني وتعنت عقدي في التعامل مع الحياة، فينقلها لنا النقَلَة المأجورون إلى الاستعمال العربي بقصد إلصاق هذه التهمة بالإسلام والمنتسبين إليه فيقال: (الأصولية الإسلامية أو العربية)!، ومفهوم (المقاومة)، فهي عندما تكون من غير مسلمين تكون مقاومة مشروعة(كما هو الحال في التعامل في المواجهة بين أوكرانيا وروسيا)، وعندما تكون من المسلمين تكون إرهابًا وعنفًا، كما هو الحال بين العصابة الصهيونية الهمجية وإخواننا العرب المسلمين في فلسطين عامة وغزة الأبية بخاصة! فإبادة الصهاينة دفاع عن النفس ومقاومة للإرهابيين، وجهاد الفلسطينيين، في الدفاع عن أنفسهم وأهليهم وأراضيهم ومقدساتهم، إرهاب وعنف ! وهكذا مفاهيم: الرجعية والتقدمية، والنضالية والتحررية! وإن ما يقوم به إخواننا العرب في فلسطين جهاد مشروع مفروض، وهو عمل شريف طيب، ينبغي أن يفخر به كل عربي وعربية!
3- مفاهيم عامَّة:
وتشيع في الخطاب الدعوي والإعلامي والاجتماعي والسياسي ونحوها؛ من مثل مفاهيم: الحريَّة، العدالة، الديمقراطية، المواطنة، الشورى…إلخ. وهذه المفاهيم تختلف باختلاف الأمم والحضارات والثقافات والأنظمة الحاكمة!
فينبغي لنا أن نحرص على تأصيل مفاهيمنا واصطلاحاتنا إسلاميًّا ولغويًا، أما إسلاميًّا فيكون التأصيل بأن تكون معبرة عما يوافق التصور الإسلامي للكون والحياة والإحياء، وألا تكون ذات دلالة دينية أو قومية مخالفة لهويتنا العربية الإسلامية، وأما التأصيل اللغوي فيكون تكون الصياغة بلغة عربية سليمة وسديدة، وأن تخرج من مجمع لغوي جاد ودقيق، يمثل العرب جميعًا وليس معبرًا عن قطر دون قطر، أو عن مجموعة أقطار دون مجموعة أخرى، وأن يوجد قرار سيادي عربي عن طريق قمة عربية لفرض هذا التأصيل المنشود، والذي هو مطلب كل العلماء النبلاء في رحاب الوطن العربي منذ منتصف القرن العشرين إلى الآن!
إشكالية تعدد الاصطلاحات للمفهوم الواحد:
أقف هنا مع ثلاثة مفاهيم نالها العبث الاصطلاحي أو الفوضى الاصطلاحية، وهي مفاهيم: الإرهاب، والتناص، والانزياح.
إشكالية مفهوم الإرهاب:
أما مفهوم الإرهاب فقد قمت بدراسته في مقالة لي بعنوان(الإرهاب مفهومًا وأنواعًا)، وجاء فيها: (الإرهاب) من المصطلحات المُلبسة والغامضة؛ بسبب التعقيدات السياسية والدينية، الماضية والحالية، المتصلة به؛ إذ أصبح ذا مفهوم غامض أحيانًا، ومختلف عليه في أحيان أخرى. ونحاول هنا عرض أكثر من تعريف واستنباط تعريف محدد، مع بيان أبرز أنواعه وأشكاله؛ فللإرهاب تعريفات عدة، فقد عرف قاموس ” إكسفورد” كلمة الإرهاب بأنها “استخدام العنف والتخويف بصفة خاصة لتحقيق أغراض سياسية”. وفي اللغة الفرنسية نجد أن قاموس “روبير” عرف الإرهاب بأنه “الاستعمال المنظم لوسائل استثنائية للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي مثل الاستيلاء أو المحافظة أو ممارسة السلطة، و(الإرهاب) بصفة خاصة هو مجموعة من أعمال العنف (اعتداءات فردية أو جماعية أو تدمير) تنفذها منظمة سياسية للتأثير على السكان وخلق مناخ بانعدام الأمن”. كما يعني (الإرهاب) أيضًا: “محاولة الجماعات والأفراد فرض أفكار أو مواقف أو مذاهب بالقوة؛ لأنها تعد نفسها على صواب والأغلبية مهما كانت نسبتها على ضلال، وتعطي نفسها وضع الوصاية عليها تحت أي مبرر… ومن هنا يأتي أسلوب الفرض والإرغام، وفي معجم المنجد كلمة (الإرهابي) تدل على كل “من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطة)، و(الحكم الإرهابي) هو نوع من الحكم يقوم على الإرهاب والعنف تعمد إليه حكومات أو جماعات ثورية. ويعرف الإرهاب في القانون الجنائي بأنه:” تلك الأفعال العنيفة التي تهدف إلى خلق أجواء من الخوف، ويكون موجهًا ضد أتباع طائفة دينية أو أخرى سياسية معينة، أو لتحقيق هدف أيديولوجي، وفيه استهداف متعمد أو تجاهل سلامة غير المدنيين. إنها أعمال العنف غير المشروعة والحرب. يتم عادة استخدام تكتيكات مماثلة من قبل المنظمات الإجرامية لفرض قوانينها. فهو وسيلة من وسائل الإكراه في المجتمع الدولي. وإنه العنف المتعمد الذي تقوم به جماعات غير حكومية أو عملاء سريون بدافع سياسي ضد أهداف غير مقاتلة، ويهدف عادة للتأثير على الجمهور….والذي تركز عليه هذه التعاريف وغيرها هو: أن الإرهاب قرين العنف والاعتداء والإكراه، وأنه عمل عدواني منظم ومخطط، وأنه في الغالب موجه ضد المدنيين البرآء، وأنه لبث الرعب والخوف في النفوس، وأنه لتحقيق هدف أو أهداف سياسية أو دينية… وهذا المفهوم الاصطلاحي المعاصر- في نظر كل باحث منصف- بعيد كل البعد عن إسلامنا الحنيف الحميل السمح الخاتم.
و(الإرهاب) قد يكون (فكرًا) يزين العنف ضد الآخرين ويبرره، وقد يكون (قولاً) يدعو إليه ويعلن عنه ويحث عليه. والغالب أنه (فعل) عنيف غير مشروع، يمارس بلا إعمال للعقل أو الضمير، بل بكل وحشية وهمجية وجاهلية وغطرسة وبلطجة! والهدف من ذلك بث الرعب والخوف والهلع والفرقة والفتنة بين أفراد المجتمع! لتحقيق مآرب سياسية أو عقائد دينية أو مصالح اقتصادية أو غير ذلك، على حساب أمن العامة وأمانهم، وراحتهم ورخائهم، واستقرارهم وهدوئهم… وهناك إرهاب ديني، وثان اجتماعي، وثالث ثقافي، ورابع إلكتروني، وكل يوم تزداد ألوان الإرهاب وأشكاله، وتتنوع أساليبه، وهذا ما يحتم متابعته باستمرار ووعي وتطور! أما أن يطلق مفهوم (الإرهاب) على المجاهدين المرابطين المدافعين عن أنفسهم وأهليهم وأرضهم ومقدساتهم فهذا هو التحريف المقصود وهذا هو التشويه المتعمد، والتضليل المخطط له من قبل أعداء العروبة والإسلام! إن ما يفعله إخواننا العرب في فلسطين جهاد شريف ومقاومة نبيلة، وليس إرهابًا بمفهومه الغربي المُلْبِس!
إشكالية مفهوم التناص:
تعرضت لمفهوم التناص وإشكالية مصطلحه في بحث علمي لي بعنوان (القرآن الكريم والتناص: مقاربة في الضوابط والمحاذير) منشور في المؤتمر الدولي الأول لكلية اللغة العربية بالقاهرة ص525-526، طبع سنة 1443/2022م. يُعد التناصIntertextuality )) من المصطلحات الوافدة علينا من الغرب التى تبدأ تنتشر في الأدب العربي الحديث، ويُقصد بهذا المصطلح تولد نص واحد من نصوص متعددة . وقد بدأ (مصطلح التناص) عند المنظر الأدبي السوفيتي “ميخائيل باختين(1895-1975)، ثم تبعته الناقدة البلغارية المقيمة في فرنسا جوليا كريستيفا(juliakristeva)، ثم تم شرحه وتعمق بيانه وانتشر علي يد “رولان بارث(1915-1980م)، وجيرار جينيت(1930-2018م)… أما (باختين) فقد دعا إلى (الحوارية)، و(تعددية الأصوات)، وحلّلهما في كتابه (الماركسية فلسفة اللغة)، وطبقهما في كتاباته النقدية عن الروائي الروسي (دستوفيسكي)، واهتمام (باختين)بالتناص يدل على الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص أو أجزاء من نص سابق عليها، والذي أفاد منه بعد ذلك العديد من الباحثين” كما يقول الدكتور محمد بنيس، ولمغزى المصطلح جذورٌ عربية أصيلة وإن أخذت مُسميات ودلالات مختلفة ، ومع ذلك فهي تصب في نصوص عربية قديمة ومتجددة. وقد تنوع مفاهيم تلك الحقول في العصر الحديث ما بين السرقات والمعارضات الشعرية ، والمناقضات ، والاقتباسات والتضمينات والإشارات والتلميحات ، والتوليدات وكذلك الرموز والاستيعاب والتمثيل مع اختلاف الأُطُر لكل حقل من تلك الحقول… إن مصطلح (التناصIntertextuality(: اصطلاح نقدي أوروبي، يدور مفهومه عند الدعاة إليه هو تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعرًا أو نثرًا مع النص الأصلي، بحيث يكون منسجمًا وموظفًا ودالًّا قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الأديب. ومن يقرأ نقل المترجمين العرب لهذا المفهوم يجد أنه عبر عنه بألفاظ كثيرة بلغت خمسة عشر لفظًا، هي: التناص أو التناصية ، النصوصية ، والتفاعل النصي، والتداخل النصي، والمناص، والبنيات النصية، والتعالق النصي، والمتناص، والمصاحبات الأدبية، والمتعاليات النصية، والمناقلة، والتنقلية، والحوارية…إلخ وغير ذلك من المصطلحات المترادفة ، التي تشابهت في مدلولها – مع اختلافها – في مُسمى المصطلح. وتعدد المصطلحات العربية للمصطلح الغربي “التناص” يؤدي إلى الارتباك لدى الباحثين، ولكن يمكن الاستقرار على مصطلح (التناص) لكونه أكثر اتساعًا من التعريفات السابقة حيث إنه نال قسطًا من الشهرة والانتشار على مستوى العالم العربي والغربي .
إشكالية مفهوم الانزياح
من المفاهيم غير المستقرة بين النقاد العرب المعاصرين هذا المفهو(الانزياح)، الذي أورد الدكتور عبد السلام المسدي في كتابه الأسلوبية والأسلوب بعض المصطلحات التي تدور حول هذا المفهوم، وبلغت أحد عشر مصطلحًا، وهي: التجاوز، والانحراف، الاختلال، والإطاحة، والمخالفة، والشناعة، والانتهاك، وخرق السنن، واللحن، والعصيان، والتحريف! هذا إضافة إلى مصطلحات تراثية، هي: الالتفات، والخروج على مقتضى الظاهر، والصرف، والعدول، والانصراف، والتلون، وشجاعة العربية!
فما أحوجنا إلى مؤسسات عربية سيادية تعنى بتعريب المفاهيم والمصطلحات وتوحيدها على مستوى الوطن العربي (مثل مجمع لغوي يمثل العرب جميعًا، ومركز عربي قومي لترجمة المصطلحات يمثل العرب جميعًا)، وتكون مؤسسات ذات قرار نافذ على كل الوطن العربي، وتُعنَى بتأصيل المفاهيم والاصطلاحات، وكيفية صبغها بالصبغة العربية والهوية الإسلامية، وحمايتها من كل تغريب وتحريف وتشويه وتضليل، وكل محاولات الاستيلاء الثقافي والاستلاب الفكري!
منقول – بإذن الكاتب – عن الملحق الثقافي بجريدة الأيام نيوز الجزائرية.