Site icon كُنُوز الْعَرَبِيَّة

سيميائية الألوان لغويًّا وشعريًّا [الحلقة الثانية].. بقلم أ.د/ صبري أبو حسين

سيميائية الألوان في الشعر:

الألوان مهيمنة على الإبداع الشعري منذ الجاهلية، ومن ثم درس النقاد سيميائية اللون الأسود في شعر عنترة، وشعر العبيد، ودلالات اللون الأبيض في شعر صدر الإسلام، وكذا اللونين الأخضر والأسود، وما زال هذا الميدان البحثي(جماليات توظيف اللون في الشعر) مثيرًا لكثير من الدراسات والأطاريح، ومن يقرأ عيون الشعر العربي عند كبار مبدعينا قديما وحديثًا يجد الألوان حاضرة في كثير من الصور الشعرية، وفي كثير من المقامات والأغراض مدحًا ووصفًا وغزلا وهجاء، ففي مقام المدح نجد زهير بن أبي سلمى يقول:

أشمُ أبيضُ فيّاضُ يفكك عن        أيدي العناةِ وعن أعناقِها الرّبقا

ويوظف طَرَفة بن العبد اللونين: الأبيض والأخضر في مقام الهجاء، يقول:

أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم      لؤماً وأبيضهم سربـالَ طبّاخ

تحييهم بيضُ الولائد بينـهم      وأكسية الإضريجِ فوقَ المشاجب

يصونون أجساداً قديماً نعيمها     بخالصةِ الأردانِ خضر المناكب

ويوظف امرؤ القيس اللونين: الأبيض والأصفر في التغزل بإحدى محبوباته قائلاً:

مُهَفْهَفَة ٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَة ٍ    ترائبها مصقولة ٌ كالسجنجلِ

كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْرَة      غَذَاهَا نَمِيْرُ المَــاءِ غَيْرُ مُحَلَّلِ

ويوظف امرؤ القيس اللون الأزرق في وصف حدة الرماح بقوله الجهير في الحديث عن نشأة علم البلاغة:

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي      ومسنونة زرقٌ كأنيابِ أَغوالِ

ومثله قول عمرو بن كلثوم في مقدمة معلقته:

تُريكَ إِذا دَخَلتَ عَلى خَلاءٍ     وَقَد أَمِنَت عُيونَ الكاشِحينا

ذِراعَي عَيطَلٍ أَدماءَ بِكرٍ       هِجانِ اللَونِ لَم تَقرَأ جَنينا

ويوظف عمرو بكلثوم  اللون الأحمر في معلقته الفخرية معلنا عن قوة قبيلته العسكرية بقوله:

بأنا نوردُ الراياتِ بيضًا     ونصدرهن حمراً قد روينا

وقوله:

نُطاعِنُ ما تَراخى الناسُ عَنّا       وَنَضرِبُ بِالسُيوفِ إِذا غُشينا

بِسُمرٍ مِن قَنا الخَطِّيِّ لُدنٍ                   ذَوابِلَ أَو بِبيضٍ يَختَلينا

ويوظف عنترة اللون الأسود واللون الأبيض في الدفاع عن نفسه ضد من انتقصه من أعدائه قائلا:

تُعيّرني العدا بسوادِ جلدي    وبيضُ خَصَائلي تمحو السَوادا

وهناك أشعار كثيرة وشعراء كثر عُنُوا بتوظيف الألوان في أشعارهم حتى وجد ما سمي بالصورة الفنية اللونية، وصار اللون عنصرًا جماليًّا رئيسًا  في كل صورة بلاغية شعرية أو نثرية.

ووجدنا في مصادر التعريف بالمحسنات البديعية المعنوية محسنًا باسم (طباق التدبيج) وعرفه البلاغيون بأنه أنْ يَذكُرَ الشاعر في معنًى ما مِن المعاني -كالمدحِ وغيرِه- ألْوانًا بقَصدِ الكنايةِ أو التَّوريةِ. فمِن تَدْبيجِ الكنايةِ قولُ أبي تَمَّامٍ في الرِّثاءِ:
              تَرَدَّى ثِيابَ الموتِ حُمرًا فما أتى        لها اللَّيلُ إلا وهْيَ مِن سُنْدسٍ خُضرِ
حيث ذَكَر أنَّ الفقيدَ ارْتَدى ثِيابَ الموتِ الحمراءَ، وإنَّما احمَرَّت بدِماءِ القَتْلى الَّذين صَرَعَهم في مَعارِكِه، ثمَّ أخبَرَ أنَّها قدْ استَحالَت عليه خَضراءَ؛ أي لُبْس مِن سُندُسِ الجنَّةِ. واحمرارُ الثِّيابِ كِنايةٌ عن القتلِ، واخضرارُها كِنايةٌ عن دُخولِ الجنَّةِ.ومنه أيضًا قولُ ابنُ حيوسَ:

إنْ تُرِد عِلمَ حالِهم عن يَقينٍ                 فالْقَهُم يومَ نائلٍ أو نِزالِ
تَلْقَ بِيضَ الوجوهِ سُودَ مَثارِ النــَّـ      ـقْعِ خُضْرَ الأكنافِ حُمْرَ النِّصالِ

فالبيتُ الثَّاني مُمتلِئٌ بالكناياتِ التي أتى فيها بالألوانِ لبيانِ المفارَقةِ؛ فهمْ كِرامٌ بِيضُ الوجوهِ، تَلْقاهم في الحربِ سُودًا مِن أثَرِ الغُبارِ، وأجْنابَهم خَضْراءَ نَظرًا لسَوادِ دُروعِهم؛ فإنَّ العرَبَ تُسمِّي الضاربَ إلى الأسودِ أخضَرَ، ووَصَفَ النِّصالَ بالحُمرةِ كِنايةً عن كَثرةِ القتلِ بها.
ومِن تَدْبيجِ التَّوريةِ: قولُ الحريريِّ: “قدِ ازْورَّ المحبوبُ الأصفرُ، واغبَرَّ العيشُ الأخضرُ، وأسودَّ يَومي الأبيضُ، وأبيَضَّ فودي الأسودُ، حتى رُئِي لي العدوُّ الأزرقُ، فيا حَبَّذا الموتُ الأحمرُ”؛ ففي قولهِ: “المحبوبُ الأصفرُ” تَوريةٌ تَتضمَّنُ معنًى قريبًا، وهو أنَّ مَحبوبًا لونُه أصفرُ، ومعنًى بعيدًا، وهو الذَّهبُ، وهو المرادُ، وبَقيَّةُ العباراتِ كِناياتٌ . وصار هذا المحسن تكنيكا مستخدما عند كثير من الأدباء البيانيين المحافظين أمثال المنفلوطي، والرافعي، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات. وغيرهم.

النموذج الشعري التراثي الأعلى في توظيف الألوان:

 من أدل الأشعار التراثية في توظيف الألوان قول الشاعر العراقي صفي الدين الحلي (677ه- 752م) مفتخرًا:

سل الرماح العوالي عن معالينا      واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا

إنَّا لقوم أبَتْ أخلاقُنا شرفًا            أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا

بيضٌ صنائعُنا سُودٌ وقائعُنا              خُضرٌ مرابعُنا حُمْرٌ مواضينا

وقد استطاع ذلكم الشاعر أن يوظف الألوان توظيفًا جيدًا في البيت الثالث لبيان صفات العرب وكرمهم وشجاعتهم وفخرًا واعتزازًا بهذه الأمة التي أنجبت العظام، على النهج الآتي:

-(اللون الأبيض) في قوله: (بِيض صنائعنا)، والصنعية هي الإحسان والخير، انطلاقاً من مبدأ ثابت هو أن العرب كرماء منذ فجر السلالات وإحسانهم لغيرهم، بياض لا تعيبه شائبة.

-(اللون الأسود) في قوله: (سُود وقائعنا)، والوقيعة هي يوم الحرب، كناية عن شدّة بطشهم بعدوّهم والأهوال التي يلاقيها أعداؤهم عند نشوب الحرب بينهم.

– (اللون الأخضر) في قوله: (خُضْر مرابعنا)، والمرابع هي أماكن الرعي المأكل والمشرب، ويقصد بها سعة الحال وخيرات الوطن العربي ووفرة المياه وكثرة خيراتهم وجودة أراضيهم.

 -(اللون الأحمر) في قوله: (حُمْر مواضينا)، والمواضي هي السيوف، أي أنه من شدّه الضرب والقتال، فالسيف يقطر دمًا من رقاب الأعداء من شدة القوة والشجاعة.

وبتدبر هذه الأبيات نرى أن العرب بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وبعد اتفاقية (سايكس بيكو) 1916م الشيطانية، وتقسيم الوطن العربي إلى دويلات منفصلة تائهة!- كانوا في اختيار راياتهم وأعلام دولهم، ملتزمين هذه الألوان، الواردة في هذا البيت، وقد يُضاف إليها الهلال أو النجمة أو كلاهما معًا، أو إضافة لفظ الجلالة، أو جملة الشهادة، أو عبارة(الله أكبر)، ومنذ ذلك الوقت أصبح بيت الشاعر صفي الدين الحلي ذا حضور ودلالة، بل تعدى ذلك فصارت الوحدات العسكرية تلتزم بالألوان لكل وحدة. نسأل الله –تعالى-ألا يخيب الرجاء في العرب، فنكون وطنًا عربيًّا حقيقيًّا، ونكون يدًا واحدة على أعدائنا! ونكون كما وصفنا الصفي الحِلِّي:

                 لا يظهر العجز منا دون نَيْلِ مُنًى       ولو رأينا المنايا في أمانينا

الحرية الحمراء في شعر أمير الشعراء:

(اللون الأحمر) ذو تأثير كبير على المشاعر؛ لأنه يرتبط بالحب، والعاطفة، والشغف، والعزيمة، وغيرها من المعاني، ولعل أسمى العواطف تلك التي توجد في الجهاد والحروب الدفاعية عن الدين والبلاد والعباد، ومن ثم جاء تعبير (الحرية الحمراء) المحدد للحرية بأنها مصبوغة بهذا اللون الدمائي، وهو تعبير يكاد يكان خاصًّا بأمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته القافية تضامنًا مع أهل سوريا في اعتداء الفرنسيين عليهم؛ فقد ألقاها في حفلة أقِيمَت في القاهرة سنة 1926م لمواساة سوريا ولإغاثة منكوبي العدوان الفرنسي على دمشق عندما قصفت بالقنابل. جاءت مقدمتها:

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ              وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

وَمَعذِرَةُ اليَـــراعَةِ وَالقَوافي                جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ

وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي         إِلَيكِ تَلَفُّــــــــــــتٌ أَبَدًا وَخَفقُ

وَبي مِمّا رَمَتكِ بِــــهِ اللَيالي         جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ

 يقول الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي في مقالته عن الحرية الحمراء بجريدة الأهرام:”حين أتأمل بيت شوقى في قصيدته «نكبة دمشق» التى قالها في الثورة السورية التى اشتعلت في عشرينيات القرن الماضى ضد المحتلين الفرنسيين:

وللحرية الحمراء باب    بكل يد مضرجة تدق

حين أتأمل هذا البيت الفاتن لأرى مواطن الفتنة والإثارة فيه وأعرف كيف انتزع اعجابنا ولايزال أجد السر في هذا الانفعال الصادق الذى سيطر على الشاعر وأوقفه موقف الطارق طالب الحرية الذى ظل يدق بابها حتى أدمى يده وانفتح الباب له.الحرية في هذا البيت لم تعد مجرد مطلب سياسي ولم تعد قيمة مجردة، وانما هى عروش مزدانة متوهجة تربعت في قلعتها الحصينة في انتظار فارسها القادم المشوق المتلهف. بين الحرية الحمراء وطالبها هذا اللون الذى هو لون الدم والجمر والحياة والخصوبة… والحمرة إذن ليست لونًا سطحيًّا خارجيًّا، وانما هى نابعة منبثقة من عمق الكلمة. فالحرية بطبيعتها حمراء، لأنها مطلب يتصارع فيه الأحرار والطغاة. ولون الحرية يرشح للون اليد التى تطلبها وتطرق بابها حتى تدمي. وهذا التوافق تعبير صادق عن الرابطة الحية الوثيقة المعقودة بين الحرية والإنسان التى تمثلها الشاعر وانفعل بها وعبر عنها في هذا البيت البديع الذى يبدو أن شوقى فرح باقتناصه فأخذ يذكره ويذكرنا به كلما وجد الفرصة سانحة، من ذلك قصيدته «الحرية الحمراء» التى قالها في احتفالات المصريين بيوم 13 نوفمبر، وهو اليوم الذى بدأت منه الثورة المصرية المجيدة، ثورة 1919 التى نحتفل بعيدها المئوى هذا العام. وذلك حين ذهب سعد زغلول وعلى شعراوى وعبدالعزيز فهمى إلى المندوب السامى البريطانى يطلبون الترخيص لهم بالسفر إلى إنجلترا لمطالبة الحكومة الإنجليزية بالجلاء عن مصر. إذ كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت واتفق الحلفاء المنتصرون على أن يجتمعوا في باريس ليرسموا سياستهم في المستقبل ويعلنوا بلسان الرئيس الأمريكى نيلسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. وقد وجدها المصريون فرصة يطالبون فيها باستقلالهم فتألف هذا الوفد الذى قابل المندوب السامى البريطانى وينجت يوم 13 نوفمبر وطلب الترخيص له بالسفر إلى لندن. وتوالت الأحداث التى أدت إلى انفجار الثورة التى فرضت على الإنجليز أن يعلنوا في تصريح فبراير سنة 1922 إلغاء الحماية والاعتراف بمصر مملكة مستقلة ذات سيادة. وهكذا أصبح يوم 13 نوفمبر عيدا وطنيا يحتفل به المصريون كل عام وينظم فيه الشعراء قصائدهم ومنها قصيدة شوقى «الحرية الحمراء:

فى مهرجان الحق أو يوم الدم       مهج من الشهداء لم تتكلمِ

يبدو على هاتور نور دمائها        كدم الحسين على هلال محرمِ

يوم الجهاد بها كصدر نهاره        متمايل الأعطاف مبتسم الفمِ

انه في قصيدته هذه يمجد شهداء الثورة ويتغنى ببطولاتهم ويعبر عن حزنه لأنه لم يكن حاضرا في تلك الأيام التى وقف فيها المصريون وقفة رجل واحد يطلبون الحرية وسقط فيها الشهداء وضحوا بأرواحهم وسالت دماؤهم، لأن شوقى في تلك الأيام التى اشتعلت فيها ثورة 1919 كان لايزال منفيا في إسبانيا. ولو أنه كان حاضرا في مصر وعاش أيام الثورة لنظم فيها ما لم ينظم:

يوم البطولة، لو شهدت نهاره       لنظمت للأجيال ما لم ينظم

لولا عوادى النفى أو عقباته      والنفى حال من عذاب جهنم”

وما أجمل قول شوقي فيها:

بِلادٌ مــــــاتَ فِتيَتُها لِتَحيا             وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا

وَحُرِّرَتِ الشُعوبُ عَلى قَناها      فَكَيفَ عَلــــــى قَناها تُستَرَقُّ؟!

وقوله:

وَقَفتُمْ بَينَ مَــــــوتٍ أَو حَياةٍ            فَإِن رُمتُمْ نَعيمَ الدَهرِ فَاشْقَوا

وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ               يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ

وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا          إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا

وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا          وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ

فَفي القَتلى لِأَجيـــــــــالٍ حَياةٌ    وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ”

فمثل هذه الحالة الشعرية والشعورية والفكرية المقاومة والمجاهدة والمناضلة هي المطلوبة حاليًا، وهي المعبرة عن حال أهلينا في غزة وفلسطين ولبنان وغيرهم، ممن يجاهدون ضد الصهاينة ومن معهم جهادًا مخلصًا فاعلاً! موفقا بقدرة الله تعالى ونصره.

فاللهم اجعل أيام أمتنا بيضاء خضراء، وأيام الصهاينة ومن معهم سوداء زرقاء غبراء.