سيبويه رجل النحو العربي الأول
النحو العربي الأول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
وبعد،،
فلعله لم تلق شخصية في التراث اللغوي العربي – على امتداد تاريخه الطويل- اهتمامًا وعنايةً مثلما لقيتْ شخصية سيبويه، كما لم يلق كتابٌ في العربية- قراءةً وشرحًا له (أو لمشكله أو لشواهده)، ودراسةً، واعتراضًا عليه، أو ردًا للاعتراض عليه، وتهذييًا- مثلما لقي كتاب سيبويه.
فأما سيبويه فاسمه عمرو بن عثمان بن قَنْبر، وأما كنيته فالأشهر أنها أبو بشر، وأما سيبويه فهو لقبه وهو عبارة لفظ فارسي، يعني: (رائحة التفاح) أو ذو الثلاثين رائحة، وتعددتْ علل إطلاق هذا اللقب عليه، ما بين قائل: إنّ أمه كانتْ ترقَّصه وهو صغيرٌ بذلك. وترقِّص الأم ولدها، أي تأرجحه على ركبيتها أو بين ذراعيها، ويصاحب هذا الترقيص كلامٌ لعله منه قولها له: سيبويه، أي: يا رائحة التفاح.
وقيل: كان من يلقاه لا يزال يشتم منه رائحة طيبة. وقيل أيضًا: كان يعتاد شم التفاح. وقيل: لأن وجنتيه كانتا كالتفاح.
وغيرها من التعليلات التي تجتمع في كونها مدحًا له، مما يدل على منزلته عند الناس، في الوقت الذي كُثر فيه التلقيب ذمًّا، مما نعهده كثيرًا عند العرب، للدرجة التي نهاهم الله عزوجل عنها في قوله: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات: 11]
ولد سيبويه بالبَيْضاء ( وهي مدينة في بلاد فارس )، ونشأ بالبصرة، حيث إنها أقرب الحواضر الإسلامية الثلاث: ( البصرة والكوفة وبغداد ) لأهل فارس، ويعد سيبويه واحدا ضمن قائمة طويلة لعلماء العربية من غير العرب شأنه في ذلك شأن أبي علي الفارسي، وابن جني، ابن فارس وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم الكثير.
لا نعرف على وجه التحديد متى ولد هذا العالم الجليل ككثير من علمائنا القدامى؛ لأنه لم يكن يعلم أحد أن هذا الصبي الصغير سيكون رجل النحو العربي الأول.
أحبَّ سيبويه العلمَ منذ صغره، وطلَبَه في مجال العلوم الشرعية، على يدي شيوخ أجلاء منهم:
- يعقوب الحضرمي وهو أحد أصحاب القراءات العشر، وكان أعلم الناس بالقراءات والعربية في زمانه. وكذلك روى عن أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة.
- وكذلك حماد بن سلمة، وكان مفتي البصرة، روى عن كثير من التابعين. ويقال إن حماد هو أول من أخذ عنه سيبويه العلم،
وكانت تلمذته على حماد المحطة الأولى والأهم في هذا الشأن، فقد كان يستملي عليه الحديث يوما فقال حمادُ: قال صلى الله عليه وسلم: ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء، فاعتقد سيبويه أن حماد قد أخطأ، لأن ليس هنا من وجهة نظره وكما يعرف من أخوات (كان) فالذي يأتي بعدها يكون مرفوعا، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فقال له حماد: لحنتَ يا سيبويه، ليس أبا الدرداء. وإنما (ليس) هنا استثناء بمعنى (إلا) أو (سوى) فبماذا رد عليه سيبويه، فقال: لا جرم، لأطلبن عِلْمًا لا تُلَحِّنني فيه أبدًا.
وهذا الموقف فيه أكثر من عبرة:
أولا– لسيبويه شخصية قوية جعلت يستطيع من خلالها أن يناقش أساتذته ولا يتورى خلف ما يسمي (الخجل العلمي القاتل)، حتى وإن كان اجتهاده خاطئا.
ثانيا– برده على أستاذه (لأطلبن عِلْمًا لا تلحنني فيه أبدًا) هذه العبارة تظهر الشخصية المستقلة لهذا الشاب، الذي يستطيع أن يرسم طريقه في تلقي العلم، أي أن استراتيجيته العلمية مرنة وقابلة للتطويع والتجديد.
وكما يقولون:( ربَّ ضارةٍ نافعةٌ )، فقد صَنَع هذا الموقفُ أعظم رجالات النحو العربي، حيث توجَّه سيبويه بعد ذلك إلى دراسة علم النحو على يدي رواده الأوائل من أمثال: عيسى بن عمر (149ه)، والخليل بن أحمد الفراهيدي (170ه)، ويونس بن حبيب (182ه)، وغيرهم.
وهنا سأقف أولا مع تلمذته على يونس بن حبيب فقد أكثر سيبويه من النقل عن يونس في كتابه كثرة واضحة، حتى بلغ نقله عنه أكثر من 200 رواية.
وإذا كان يقال (الفضل ما شهدت به الأعداء) فأقول (أفضل الفضل ما شهد به الأساتذة لتلاميذهم)، والشيوخ أدرى الناس بتلاميذهم وبباعهم وقدراتهم العلمية واختلافهم فيها وقد شهد الاثنان لسيبويه:
أما الأساتذة فقد روى أنه (( لما مات سيبويه قيل ليونس: إن سيبويه ألَّف كتابًا من ألف ورقة في علم الخليل، فقال: يونس: ومتى سمع سيبويه من الخليل هذا كله؟ جيئوني بكتابه. فلما نظر في كتابه ورأى ما حكى، قال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل فيما حكاه، كما صدق فيما حكي عني.)) [معجم الأدباء: 5/2124] وهو منهج نقدي علمي يظهر لنا كيفية اختبار النصوص والحكم على صحتها.
وأما شهادة الأعداء في المذهب النحوي فشهادة بعض علماء الكوفة له، على ما نعلم من اختلافات بين المدرستين قد تصل في بعض الأحيان إلى الخلافات، ومنها:
ومن الأخبار التي تؤكد ما للكتاب من أثرٍ كبيرٍ في نفوس بعض الكوفيين، ومطالعتهم إياه، قيل حمل الكسائي إلى أبي الحسن الأخفش خمسين دينارًا، وقرأ عليه كتاب سيبويه سرًّا.
وقيل مات الفراء وتحت رأسه كتاب سيبويه.
المحطة الثانية والأهم أيضا في التاريخ العلمي لسيبويه محطة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو الأستاذ الأكبر لسيبويه، وقد كانت للأخير منزلة كبيرة عند الخليل، يدل عليها ما رواه أحد مُجالِسي الخليل من أنه كان عنده، فأقبل سيبويه فقال الخليل: (( مرحبا بزائر لا يُملًّ)). قال أبو عمرو المخزومي- وكان كثيرَ المجالسة للخليل-: ما سمعتُ الخليل يقولها إلا لسيبويه. وقد تتلمذ هو والنضر بن شميل وعلي بن نصر ومؤرج على يد الخليل لكنّ سيبويه كان الأبرع على الإطلاق في النحو. [طبقات النحويين واللغويين: 67]
ومن المعروف أن سيبويه محيي علم الخليل وجامع القواعد النحوية عنه وعن غيره من ثقات العرب، وحينما كان يقول سألته فقط أو أخبرني أو قال أو غيرها من العبارات في كتابه فإنما كان يقصد (الخليل بن أحمد)
وأما تلاميذه فهل نتحدث عن التلمذة بمفهومها الضيق أما بمفهومها الواسع؟
إن كنا نتحدث عن التلمذة بمفهومه الضيق بمعنى من أخذ عنه مباشرة، فمنهم أبو الحسن الأخفش، وقد كان أسن من سيبويه لكنه لم يستنكف أن يقرأ عليه كتابه.
وكان من تواضع سيبويه ما رواه أبو الحسن الأخفش من أن سيبويه كان إذا وضع شيئا من كتابه عرضه عليه، يقول الأخفش: وهو يرى أني أعلم منه – وكان أعلم مني.
ومن تلاميذه الأدنونَ قطرب، أبو محمد بن المستنير، وكان ملازما لسيبويه، وكان يأتيه ليلا فإذا خرج رآه على بابه، فقال: (ما أنت إلا قطرب ليل) والقطرب دويبة لا تستريح نهارها سعيا.
وأما التلمذة بمفهومها الواسع فكل النحويين من بعده وإلى أن يرث الأرض ومن عليها في مشارق الأرض ومغاربها تلاميذ له ويدينون بعد الله عزوجل بالفضل في هذا العلم لذلك الرجل.
والبعض يعلل قلة تلامذته الأدنون بأنه كان في لسانه حُبْسة وهي عبارة عن (ثقل في اللسان يمنع من الإبانة)
ولله در الأستاذ عبد السلام هارون في تعليقه على هذا الخبر- وغيره- بقوله: (( ولعل تلك الحبسة، على ما يبدو من مبالغة في تصويرها، هي التي دفعته إلى التأليف، وتنحتْ به عن مقام الأستاذية الواسعة، إلى مقام التأليف البارع المقتدر، الذي يجانبه فضول القول وفضول الفكر.)) [الكتاب: 1/17]
ويمكن اعتبار هذه الأخبار من المبالغات بالفعل؛ لِمَا روي أنه خاض العديد من المناظرات مع الكوفيين من أمثال: الأحمر، وهشام، والفراء. وكذلك مناظرته الكسائي في المناظرة الكبرى المعروفة بـ(المسألة الزنبورية) والتي عقدت في بغداد. وبغض الطرف عن النتيجة التي آلت إليها تلك المناظرة، إذ كان لمكر الكوفيين فيها اليد الطولى كما يقال.
أقول على الرغم من ذلك فإن مثل هذه المناظرات قد تؤكد أن ما روي في شأن لسانه من المبالغات فعلًا، لأن من آليات المناظرات فصاحة اللسان، وإن وجدت هذه الحبسة بالفعل فتعد عقبةً أجاد سيبويه اغتنامها في براعته في الكتابة.
وبعد هذه المناظرة رحل سيبويه عن بغداد، ولبى نداء ربه سنة 180ه على أرجح الآراء، وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة. وهنا أقف وقفة إجلال وتقدير لذلك الشاب الذي ذاع صيته ولم يتجاوز تلك السن. كما أنه لم يترك المؤلفات العديدة وإنما ترك أثرا واحد جعله في مصاف علماء الأمة الرواد.