حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [9] الذنب والسيئة.. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

فرق ابن القيم بينهما، فبين أن المراد بالذنب الكبيرة، أما السيئة فيراد بها الصغيرة من الأعمال التي تكفرها الحَسناتَ أو اجتناب الكبائر, يقول: “فالذنوب المراد بها الكبائر، والمراد بالسيئات الصغائر, وهي ما تعمل فيه الكفارة من الخطأ وما جرى مجراه, ولهذا جعل لها التكفير, ومنه أخذت الكفارة، ولهذا أيضاً لم يكن لها سلطان أو عمل في الكبائر في أصح القولين …, والدليل على أن السيئات هي الصغائر، والتكفير لها قوله تعالى:  (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا )[1] …, وعند الإفراد يدخل كل منهما في الآخر, كما تقدم, فقوله تعالى: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ )[2] يتناول صغائرها وكبائرها, ومحوها ووقاية شرها، بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال, كما قال تعالى: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)[3]. والمتأمل لكلام ابن القيمّ يرى أنه يفرق بين اللفظين في المعنى في حال الجمع بينهما في سياق واحد, والأول (أي الذنب) يختص بالغفران والثاني (وهو السيئة) يختص بالتكفير, واستشهد على أن السيئات هي الصغائر بقوله تعالى: ( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[4] غير أنه استدرك قائلاً: “وعند الإفراد يدخل كل منهما في الآخر” فتأتي السيئات للصغائر أو الكبائر, كما تأتي الذنوب لكلا المعنيين وبالتبعة يأتي التكفير لكليهما، كقوله تعالى: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) [5] وكلام ابن القيم – في هذا السياق جَدُّ دقيق، حيث وردت الكلمتان  مقترنتين في سياق واحد في سورة آل عمران في قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ )[6] وقد فسر ابن عباس الذنوب بالكبائر والسيئات بالصغائر, وأيد أبو حيان ذلك بآية النساء السابقة. وجاءت السيئة منفردة في سياق آخر وحلت محل الذنب في قوله تعالى: ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ )[7] وفسر المفسرون السيئة بالكفر والشرك, ونسب ذلك لابن عباس ومجاهد[8], وقيل المعصية للنار, وعليه تفسير من فَسّر السيئة بالكبائر[9]. وقد تحتمل السيئة المعنيين معاً في سياق واحد, ففي قوله تعالى: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ )[10]. قال بعض العلماء: “كفرّ عنهم سيئاتهم التي اقترفوها قبل الإيمان، وكفر لهم الصغائر, وكفرّ عنهم بعض الكبائر بمقدار يعلمه إذا كانت قليلة في جانب أعمالهم الصالحات”[11].

كما يأتي الذنب للصغائر أو ما في معناها, ففي قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )[12] قال القرطبي: “قيل: ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح … وقيل: “ما تقدم” من ذنب يوم بدر “وما تأخر” من ذنب يوم حنين, وقيل قبل الرسالة, وما تأخر في الجاهلية قبل أن يوحى إليك, وهذا على رأى من يعتقد أن الأنبياء يجوز عليهم ارتكاب الصغائر دون الكبائر[13]. ورجح الشوكاني ما قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير بأن الذنب المتقدم ما كان قبل الرسالة, والمتأخر بعدها، ثم قال: ويكون الذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى, وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنباً في حق غيره[14].

على أن تفسير الذنب بالكبيرة والسيئة بالصغيرة ليس التفسير اللغوي المراد, فأهل اللغة فسروا اللفظين على غير ذلك, فالسيئة هي الفعلة القبيحة, وهي ضد الحسنة[15]، وقيل السيئة: الخطيئة[16]، وجعل ابن فارس السين والواو والهمزة أصلاً واحداً يدل على القبح، تقول رجل أسوأ: أي قبيح, وامرأة سواء: أي قبيحة … ولذلك سميت السيئة سيئة[17].

أما الذنب فقد فسره بعضهم بالجرم[18]، وفسره البعض الآخر بالإثم[19]، وفسره فريق ثالث بالإثم والجرم والمعصية[20]. ويفهم من كلامهم أن الذنب أعم, وأن السيئة أخص, فالذنب كل ما اجترمه الإنسان من معاص وآثام سواء أكان صغيراً أم كبيراً, عظيماً أم حقيراً, أما السيئة، فهي الفعلة القبيحة أو الخطيئة, ولا يخفى أن الوصف جاء على فعيل في المعنيين, وهو مبالغة في القبح والخطأ.

ويرى أبو هلال “أن الذنب عند المتكلمين ينبئ عن كون المقدور مستحقاً عليه العقاب, وقد يكون قبيحاً لا عقاب عليه, كالقبح يقع من الطفل ولا يسمى ذنباً، وإنما يسمى الذنب ذنباً لما يتبعه من الذم … ويجوز أن يقال إن الذنب يفيد أنه الرزل من الفعل الدنيء, وسمي الذنب ذنباً لأنه أرزل ما في صاحبه”[21] فالذنب كما يراه أحد الباحثين أعم ألفاظ هذا الباب, لأنه يشمل الصغائر والكبائر، كما يشمل كل مالا تحمد عقباه, ولذلك قال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة  السلام: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ )[22].

ومن هنا ترى أن ابن القيم قد جمع الألفاظ السابقة: الإثم والعدوان والفحشاء والمنكر والفسوق والعصيان والذنب والسيئة في حقل واحد لما يجمع بينهما من معنى عام، ثم فرق بين كل مقترنين منها عن طريق الاشتقاق أو السياق أو المتعلق أو الاشتقاق الأكبر كما نبه على أن اللفظ قد يتضمن معنى أخيه إذا انفرد في سياق من السياقات، ويظهر الفرق في حال الاقتران.

======================

[1] النساء آية 31

[2] محمد آية 2

[3] مدارج السالكين 1/318 والزمر آية 35

[4] النساء آية 31

[5] الزمر آية 35

[6] آل عمران آية 193

[7] البقرة آية 81

[8] البحر المحيط 1/450 والجامع لأحكام القرآن 2/16 والتحرير والتنوير 1/581

[9] البحر المحيط 1/450

[10] محمد آية 2

[11] التحرير والتنوير 26/75

[12] الفتح آية 2

[13] الجامع لأحكام القرآن 16/252

[14] فتح القديرة 5/59

[15] المفردات ص 253

[16] اللسان والقاموس “سوأ”

[17] المقاييس 3/113

[18] السابق 2/361

[19] القاموس “ذنب”

[20] اللسان “ذنب”

[21] الفروق اللغوية ص 242

[22] معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم د. محمد محمد داود دار غريب ص 41 والشعراء آية 14

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu