المعنى في شروح المنظومات الحديثية- دراسة في بعض شروح منظومة (غرامي صحيح) [5] بقلم د. عمرو عطيفي
مدرس بقسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب - جامعة القاهرة
المعنى في شروح المنظومة
يروي القفطي في إنباه الرواة عن أبي العباس ثعلب أنه نظر إلى حاله واشتغاله بالنحو في مقابل المشتغلين بعلوم القرآن والحديث والفقه، فقال لابن مجاهد المقرئ: “يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة”([1])، يقول ابن مجاهد: “فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي ص في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل”([2])، ويعلق الروذباري على تلك الجملة بقوله: “أراد أن الكلام به يكمُل، والخطاب به يجمُل، وأن جميع العلوم مفتقرة إليه”([3])، ويشير ذلك إلى أهمية التمكن لا من علم النحو فحسب، بل من كل علوم العربية لمن أراد أن يتصدى لتفسير آية أو شرح حديث أو استنباط معنى فقهي، فلا سبيل إلى التوصل إلى هذه العلوم من دون الوعي التام بلسان العرب.
لقد تعامل شراح المنظومة الغرامية مع ألفاظ القصيدة- بعضها أو كلها- بوصفها كلمات تحتاج إلى استشارة المعجم، فيمهد الشارح لمعنى البيت بصناعة معجم للكلمات، ويظهر لدى الشراح وعي تام بأصول الصناعة المعجمية- إن صح الاستخدام- فنجد تنويعًا في لغة شرح الألفاظ بين الترادف والتضاد والشرح بالتعريف، ونجد حرصًا على بيان نطق الكلمات نطقًا سليمًا بضبطها بذكر حركات الحروف، ونلحظ اهتمامًا بذكر المعلومات الصرفية المتعلقة باللفظة المشروحة، ونلمس جهدًا في تقديم بعض المعلومات النحوية الخاصة بإعراب البيت، فضلًا عن الإشارات الداعمة لفكرة السياق في تحديد المعنى، أو تعدده، بالإضافة إلى الاعتناء بذكر الشواهد الداعمة. وإن كانت هذه الأمور متفاوتة في الشروح محل الدراسة، فإنها دالة على وعي تام من قبل الشراح بأهمية التسلح بالأدوات التي تمكن من فهم علم الحديث عمومًا، وعلم مصطلح الحديث خصوصًا، وعلى رأس هذه الأدوات علوم العربية نحوها وصرفها وصوتها ودلالتها، التي بها يتوصل إلى فهم أسرار القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، واستنباط الدلالات والأحكام الفقهية. ولنشرع الآن في تفصيل ما أجملناه.
(4/1) شرح الألفاظ:
قدمت الدراسات اللغوية الحديثة أشكالًا عدة لشرح الكلمة، منها الشرح بالمرادف، والشرح بالتضاد، والشرح بذكر سياقات الكلمة، والشرح بالتعريف، وأخذت الدراسات في توضيح الفروقات بينها وما تتمايز بها وما يؤخذ عليها. وقد ظهر لدى شراح المنظومة بعض أشكال شرح الكلمات، كالشرح بالمرادف والتضاد وغيرهما.
(4/1/1) الشرح بالترادف:
تباينت آراء قدامى اللغويين حول وجود الترادف في اللغة بين مثبت ومنكر، والأمر نفسه عنده اللغويين المعاصري فمنهم من أقر الترادف التام، ومنهم من أثبته بشروط([4])، ومنهم من أنكر وجوده([5]). وإذا كان ثمة خطورة في الاعتماد على هذا النوع من الشرح بمفرده([6])؛ لأن “تطابق المعاني في بعض الأحيان لا يعني ضمان عملية الإبدال والإحلال… وذلك أن نجد أن “عظيم” و”كبير” صفتان مترادفتان في إحدى معانيها، فنقول”أجر عظيم” و”أجر كبير” و”نصر عظيم” و”نصر كبير” ولكن لا نقول “حجم عظيم” بل “حجم كبير””([7])، إذا كان ذلك فإن الأمر في شرح النصوص مختلف تمامًا؛ إذ يعني الترادف في هذه الحالة تمام المعنى الترادفي للفظة في هذا السياق الواردة فيه لا غير، وهذا ملمح قد أشار إليه عبد الكريم جبل([8]).
وقد احتلَّ هذا النوع من تفسير المعنى لدى الشراح الصدارة، في مقابل غيره من أنواع التفسير أو الشرح الأخرى التي اتبعها الشراح، ويلفت الانتباه في هذا النوع من الشرح عددًا من الملاحظات:
1- اختيار كل شارح للمفردة التي يشرحها، فلم يتفق كل الشراح في كل الألفاظ المشرحة إلا في النذر القليل.
2- عدم تطابق كلمات المعنى في كثير من الألفاظ لدى الشراح فيما يتعلق بالكلمات المشتركة لديهم.
3- عدم الاعتماد أحيانًا على كلمة المنظومة، وتعريفها بالمصدر أحيانًا، أو تجريدها من الضمير أحيانًا أخرى.
ويمكن أن نلحظ ذلك في البيت الأول من المنظومة:
غرامي صحيح والرجا فيك معضَل …. وحزني ودمعي مرسل ومسلسل
فالكلمات المشروحة بالمرادف عند الشراح هي: [غرامي- الرجا- معضل- مسلسل]، ووردت على النحو التالي:
* غرامي: “غرامي: أي ولوعي”([9])– “الغرام: الحب اللازم”([10])– و”الغرام: الحب القوي”([11]).
* الرجا: “الرجا… الأمل”([12]).
* معضل: “العضل: المنع”([13])– “معضل: شديد”([14])– “المعضل: المنقطع الضعيف”([15]).
* مسلسل: “المسلسل: المتوالي”([16])– “مسلسل: متتابع”([17]).
ملاحظات:
1- أكثر الشروح اعتمادًا على هذا النوع من الشرح الملح الغرامية، فقد أكثر من شرح ألفاظ الأبيات بالترادف، وقد حافظ الشارح على كلمة البيت بشكل كبير، فنجده يعرف الكلمات- باستثناء كلمة أو كلمتين- كما وردت في المنظومة، ويشرحها بما يتلاءم معها: فالفعلية تشرح بفعلية (يشهد- ترق- لا أسيغه- أقضي- رمت- فاعتبر- أوري)، والاسمية المضافة لضمير المتكلم، تشرح بمضاف إلى ضمير المتكلم (ذلي- أمري- عذالي- عذولي-)، والمشتقة تشرح بمشتق (متروك- موقوف- المعول- مرفوعًا- عذل- منكر).
2- أحيانًا يعلل الشارح لاختيار كلمة الترادف من بين البدائل المتاحة، كأن يبين تلميحًا أن الكلمة من المشترك اللفظي، واختصت بمعنى واحد دون غيره تبعًا لسياقها، مثل: (أقضي زماني فيك): أي أنهيه؛ لأن القضاء يكون بمعنى الإنهاء، تقول: قضيت ديني..”([18])، فهو يبين علة اختيار المعنى معتمدًا على السياق؛ إذ تدور كلمة أقضي حول معاني عدة، منها معنى الإنهاء الذي يجيزه النص، وهو من معاني الفعل (أقضي). ويكون التعليل لتوضيح أصل الكلام، مثل: “(ولوعتي): أي: حرقتي؛ لأن لوعة الحب حرقته”([19])، ومثل تعريف أداة التنبيه (ها) بالمرادف: “انظر وتنبه؛ إذ الهاء حرف تنبيه”([20])، وقد يكون التعليل لسببية إحدى الكلمتين للأخرى، فلما كان أحدهما سببًا في الآخر صح الترادف به، مثل: “الغرام: الحب القوي؛ لأنه سبب لكل غرامه حتى النفس”([21])، “والرغم: القهر؛ لأن أنف المقهور كأنه لصق بالرغام وهو التراب”([22]).
3- قد تكون الكلمة المرادَفة جمعًا، ويكون مرادفها مفردًا بعد توضيح إفراد الجمع، مثل: “عذالي: جمع عاذل، وهو اللائم”([23]).
=======================
([1]) إنباه الرواة، ج1، ص 178، 188.
([2]) إنباه الرواة، ج1، ص 188.
([3]) إنباه الرواة، ج1، ص 188.
([4]) انظر: في اللهجات العربية، ص 154: 156، أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص 226، ص 227، فتح الله صالح، دراسة في ظاهرة الترادف، ضمن مقدمة تحقيق كتاب الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى للرماني، دار الوفاء، ط3، 1413هـ 1992، ص 14: 33- نايف خرما: أضواء على الدراسات اللغوية، الكويت، عالم المعرفة، ع9، 1987، ص 53.
([5]) عودة عيد عودة عبدالله: المفردات الدالة على الزمن ودلالتها في القرآن الكريم، مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، م(63)، ع(3)، يولية 2003، ص 84- آلان بوليغر: المعجمية وعلم الدلالة المعجمي، مفاهيم أساسية، ص 168.
([6]) انظر: الأصول، ص 279- اللغة العربية معناها ومبناها، ص329- صناعة المعجم الحديث، ص 141- من قضايا المعجم العربي ص174.
([7]) ديرك جيرارتس: نظريات علم الدلالة المعجمي، ترجمة فاطمة الشهري وآخرين، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، 1434هـ- 2013م، ص 136.
([8]) انظر: عبدالكريم جبل: في علم الدلالة، دراسة تطبيقية في شرح الأنباري للمفضليات، دار المعرفة الجامعية، 1997، ص53.
([13]) شرف الطالب في أسنى المطالب، ص 67- الملح الغرامية، ص 19.