سيميائية الألوان لغويًّا وشعريًّا [الحلقة الأولى].. بقلم أ.د/ صبري أبو حسين
أستاذ الأدب والنقد ورئيس قسم الأدب بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالسادات- جامعة الأزهر
سيميائية الألوان لغويًّا وشعريًّا
من يقرأ عن (الألوان) في مدونات التراث العربي، سواء المخطوط منها والمطبوع، يظهر له أن الألوان ذات أهمية كبيرة، وأنها قد احتلت حيزًا كبيرًا في خطابات الحضارة الإسلامية المتنوعة؛ فهي من الأدلة المحسوسة على المستوى الذي وصلت إليه الحضارة المادية، ولننظر مثلاً إلى الألوان الزاهية النضرة في الآثار المتبقية من حضارة الأندلس، ذلك الفردوس العربي والإسلامي المفقود. و(الألوان) دالة على الطبقات الاجتماعية وتميزها، وعلى رقي الصناعات وازدهارها، وعلى الأذواق وتطورها، بل لبعض الألوان وظيفة نفسية؛ إذ توصلت الأبحاث العلمية إلى أنّه يمكن للَّون الأصفر أن يساعد على تحفيز الذاكرة، والتشجيع على التواصل، بالإضافة إلى تنشيط الجهاز العصبي، ويُحفز اللون الأزرق جسم الإنسان على تكوين مواد كيميائية تساعد على الهدوء والاسترخاء، كما أنّه يعد لونًا مثبطًا للشهية.. وفى مجال الفنون تعد (الألوان) من أروع الصفحات في سجل الفن الإسلامي التي تبرر عبقرية الفنان المسلم وأصالته في الصناعة والفن… وقد احتلت (الألوان) مساحة كبيرة في الخطاب الإسلامي، فذكرت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فوردت كلمة اللون ومشتقاتها في تسع آيات من القرآن الكريم، وذكر القرآن الكريم ستة ألوان، هي: الأبيض والأخضر والأسود والأصفر والأزرق والأحمر. وأشير ضمنيًّا إلى اللون في نصوص قرآنية كريمة كثيرة. وقد أدت وظائف تعبيرية، ورمزية وحسية وجمالية، ولها حضور بارز كذلك في الحديث النبوي الشريف وكلام السلف الصالح… ف(الألوان) حاضرة في كل خطاب سواء كان لغويَّا أو إسلاميًّا أو أدبيًّا، ويوجد اهتمام بها من قبل علماء وباحثين في مجالات فكرية متنوعة!
وترتبط السيميائية (العلاماتية) أشد ارتباط بالألوان لغويًّا وفكريًّا وأدبيًّا، فلكل لون سيمياء ودلالة وتميز وخصائص فارقة، وللألوان –كما يقول دارسو الألوان في اللغة العربية-أثر في التعبير عن أسماء الناس وصفاتهم بل إن بعض القبائل العربية سميت بألفاظ الألوان، وبيِّن دلالة كل اسم ومعناه، وأثره في الحياة العربية، فقالوا: الأشقر والأسود وباقل والأبرش والجون والجونة وابن الأحمر والأدهم ورقاش والرقطاء والأرقم والزهراء والأشهل وغيرها من الأعلام المشتقة من الألوان. ولكل لون دلالة فـ(الأحمر) للعواطف والمشاعر، فهو لون رومانسي، و(الأصفر) يدل على التفاؤل، والبهجة، والطاقة، وقد يشير إلى مناقض ذلك كالخداع، والخبث، والمرض، و(اللون الأزرق) لون الروح، والحرية، والحدس، والخيال، والإلهام، وقد يحمل في طياته معانٍ أخرى كالولاء، والثقة، والإخلاص، والاستقرار، وعلى النقيض من ذلك قد يدل اللون الأزرق على الكآبة والحزن، وهكذا دواليك!
وتاريخيًّا يعد الفراعنة القدماء من أقدم الأمم في التاريخ البشري التي استخدمت الرايات والأعلام كسيمياء وطنية وقومية؛ ليرمز إليها، حيث توجد في المعابد المصرية القديمة نقوش تبيّن استخدامهم لرايات وأعلام ملونة ومصورة في الاحتفالات والحروب. وتحمل (الألوان) دلالات سيميائية كثيرة ومثيرة، تختلف من بلد لآخر، ومن أديب لآخر، ومن حضارة لأخرى.
مفاهيم الألوان لغويًّا:
الجذر اللغوي للفظ (اللون) في المعاجم العربية[ل/و/ن] يدل على دلالة كلية هي التحديد والتمييز والتخصيص، قال العلامة ابن فارس(ت395هـ) في معجمه مقاييس اللغة:” اللَّامُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ سَحْنَةُ الشَّيْء” أي صفته وشكله وحاله، وهيئة مادته وعلامتهِ. مِنْ ذَلِكَ اللَّوْنُ: لَوْنُ الشَّيْءِ، كَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ، وَيُقَالُ: تَلَوَّنَ فُلَانٌ: اخْتَلَفَتْ أَخْلَاقُهُ. ويقال: “لَدَيْهِ لَوْنٌ جَيِّدٌ مِنَ الثِّيَابِ”: صِنْفٌ، نَوْعٌ. “قَدَّمَ لَهُ أَلْوَاناً مِنَ الطَّعَامِ” “يَأْتِي بِأَلْوَانٍ مِنَ الْحَدِيثِ”، و”لَوَّنَ الْبَلَحُ”: ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ النُّضْجِ، و”لَوَّنَ الصُّورَةَ”: جَعَلَهَا ذَاتَ لَوْنٍ أَوْ أَلْوَانٍ، و”لَوَّنَ الشَّيْبُ فِيهِ”: ظَهَرَ، وبَدَا فِي شَعْرِهِ الشَّيْبُ.
وقد اهتم العلامة ابن سيده(ت408هـ) بالألوان في كتابه “المخصص”، فذكر لفظة الألوان أكثر من ثلاثين مرة، وكلمة اللون ما يقرب من سبعين مرة، وتحدث عن ألوان الحدقة، وألوان الشفة، وتلكم في فصل خاص عن الألوان عامة، وعن الخال والشامة، وبريق اللون وإشراقته، فكان مما قال عن الدلالة الكلية للَّون:” ابْن دُرَيْد: لون كل شَيْء: مَا فصل بَينه وَبَين غَيره، وَالْجمع ألوان، وَقد تلون ولونته. وأَبُو عبيد: النقبة: اللَّوْن. وَأنْشد: ولاح أَزْهَر مَشْهُور بنقبته الْفَارِسِي. فَأَما قَوْله:
بأعينٍ مِنْهَا مليحاتُ النقبْ
شُكْلُ التِّجارِ وحِلال المُكْتَسَبْ
فَإِن النقب هَهُنَا ألوان الْأَعْين خص بِهِ وَرَوَاهُ الرياشي النقب جمع نقبة وَهِي هَيْئَة النقاب وحالته كالعمة والردية، أَبُو عبيد: البوص: اللَّوْن ….َأبُو عبيد: السحناء: الْهَيْئَة، والسحنة: لين الْبشرَة وَالنعْمَة، وَجَاء الْفرس مسحناً أَي حسن الْحَال وَالْأُنْثَى مسحنة. صَاحب الْعين: الدهماء: سحنة الرجل. ابْن دُرَيْد: حبر الرجل وسبره وحبره وسبره: لَونه…، وأخذ ابن سيده يعدد نقولا عن اللغويين يفسرون فيها ألفاظًا يعبر بها عن اللون إلى أن انتقل إلى عنوان (الْخَال والشامة) فقال: صَاحب الْعين: الشامة: عَلامَة مُخَالفَة لسَائِر اللَّوْن. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: شامة وشامات وشام. أَبُو عبيد: رجل مشيم ومشوم، …وفي فصل بعنوان: “بريق اللَّوْن وإشراقه” قال: ابْن دُرَيْد: برق الشَّيْء يَبْرق برقًا وبريقًا وبرقانًا، وَرجل برْقَان: براق الْبدن. صَاحب الْعين: شَيْء براق، ذُو بريق. أَبُو عَليّ: البرقانة: دفْعَة البريق، وَقَالَ: توقد الشَّيْء: تلألأ .ابْن دُرَيْد: كَوْكَب وقاد: مضيء …. والإيماض والوميض: البريق. ابْن قُتَيْبَة: ومض وأومض وَخص بِهِ الْبَرْق… صَاحب الْعين: الوهج والتوهج والوهيج: تلألؤ الشَّيْء. ابْن دُرَيْد: نجم وهاج: وقاد. وَفِي التَّنْزِيل:(وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجًا)، وَقَالَ: ابلاجَّ الشَّيْءُ: أَضَاء…
وفي العصر الحديث نجد الدكتور أحمد مختار عمر(ت2003م) يؤلف كتابه الرائد (اللغة واللون)، ويتناول كثيرًا من قضايا اللون من جانبيها اللفظي واللوني، ويربط العلم بالفن، ويتخطى ما يسمى بالإنسانيات والعلوم ، ليخرج كل هذا في عمل متكامل متناسق. ويجمع ألفاظ الألوان العربية من المعاجم القديمة والحديثة، ويقدم قائمة بأهم المفردات والتعبيرات ذات العلاقة بالألوان، ويعطى اهتمامًا خاصًّا باستخدام ألفاظ الألوان في اللغة الإنجليزية، ويقدم النظريات التي تعين سلوك الاستعمال اللغوي لألفاظ الألوان، ويربط هذا الاستعمال بالتقاليد والعادات والانطباعات النفسية، ويتعرض للألوان من وجهة النظر الطبيعية والفلسفية، ويقدم المعايير القياسية لها، ويعالج الجانب الجمالي والمنفعي للألوان، كما يعالج تأثيرها النفسي واستخدامها في العلاج وفي التحليل النفسي. ودراسة تتناول الدلالات الاجتماعية لألفاظ الألوان في التراثين الشعبي والديني، والدلالات النفسية لهذه الألفاظ في شعر نزار قباني، ومحمود حسن إسماعيل، ونازك الملائكة، وأبي العلاء المعري. وهناك مؤلفون آخرون لهم جهود علمية في دراسة الألوان لغويًّا واصطلاحيًّا، مثل كتاب(معجم الألوان في اللغة والأدب والعلم) للدكتور زين كامل الخويسكي..
أول معجم للأوان في اللغة العربية:
تحدث أصحاب المعاجم العربية عن الألوان، كل لون في مادته اللغوية، وأفاضوا القول فيها، لكن أن يوجد معجم كامل يتحدث عن الألوان فهذا لم يوجد في تراثنا إلا في معجم واحد، حيث يعد العلماء كتاب (المُلَمَّع) لأبي عبدالله الحسين بن علي النمري(ت385هـ) أولَ معجم للألوان في تراثنا العربي، يقول الحبيب الدكتور عصام فاروق -أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر- في مقالة له عنه: “ينتمي هذا الكتاب إلى المعجمات المختصة؛ التي تُعنى بجمع ألفاظ حقلٍ دلاليٍّ معينٍ، مع بيان معاني تلك الألفاظ والفروق بينها. والحقل المعرفي الذي يختص به هذا المعجمُ الصغيرُ هو الألوانُ، وقد عُني بهذا الحقلِ كثيرٌ من اللغويين، سواء داخل مُصنَّفاتهم اللغوية، على نحو ما نجد عند أبي عبيد (224ه) في ( الغريب المصنف ) من خلال ( باب الألوان واختلافها )، أو عند ابن قتيبة (276هـ) في ( أدب الكاتب ) من خلال (باب ألوان الخيل)، وغيرهما. أو بإعداد رسائل خاصة بهذا الحقل الدلالي المهم، ويعد ( المُلَمَّع) أولَ كتاب عربيّ مستقل يجمع ألفاظ الألوان، ويشرح العلاقات بينها، ويستشهد عليها من عيون الأدب العربي…. سمَّى النَّمَرِيُّ كتابَه (المُلَمَّع) وهذه الكلمة على غرابتها إلا أنَّ لها علاقةً بالألوان، فقد أورد ابنُ سيده أنَّ (( كلّ مُتلوِّنٍ بألوانٍ مُختلفةٍ مُلَمَّعٌ )) [المخصص (2/132)] وكأنَّ النَّمَرِيّ يقصد أنه سيتناول في كتابه ألوانًا متعددةً مختلفةً، تقول محققةُ الكتاب:(( ولعل تسمية المؤلف لكتابه بالمُلَمَّع- على غرابتها- تحمل الكثير من الشحنة اللونيَّة. فالتلميع لغة أن يكون في الخيل بقع تخالف سائر لونه. وكأن المؤلِّف قصد إلى تنوع الألوان في كتابه، واستقلال كل لونٍ منها بذاته استقلالًا يجعله مخالفًا للألوان الأخرى في نوعه، ومتوافقًا معها في تكوين لوحةٍ لونيَّةٍ متجانسةٍ.)) [مقدمة تحقيق الملمع (أ)] ولعل مثل هذه الاجتهادات مقبولة في ضوء عدم تعليل النَّمَرِيّ نفسِه لاختيار هذه التسمية…. وبنى الكتابَ على بيان الألوان الخمسة: الأبيض، والأسود، والأحمر، والأصفر، والأخضر، وسماها (النَّواصِع الخوالِص) كما بيَّن علاقة هذه الألوان الخمسة بغيرها من الألوان الأخرى المعروفة، كالغُبرة، والسُّمرة، والزُّرقة، (( فإنْ قال قائلٌ: فأين الغبرة، والسمرة، والزرقة، والصحمة، والشقرة وأشكالهن من الألوان؟ قيل: هذه الألوان ليستْ نواصع خوالص. وكلٌّ يُرد إلى نوعه، فالغبرة إلى البياض، والسمرة إلى السواد، والزرقة إلى الخضرة، والصحمة إلى الصفرة، والشقرة إلى الحمرة.)) [الملمع (8)] كما ذكر أن هناك من الألفاظ ما يدل على هذه الألوان الخمسة ويؤكدها، فيما يعرف بـ(مؤكدات الألوان)، فيقول: (( .. والعربُ عمدتْ إلى نواصع الألوان فأكَّدتْها، فقالتْ: أبيض يَقَق، وأسود حَالِك، وأحمر قَانِئ، وأصفر فَاقِع، وأخضر نَاضِر)) [الملمع (8)]. ومدار تقسيم الكتاب بحسب هذه الألوان الخمسة، هكذا: ذكر البياض، وذكر السواد، و باب الحمرة، وباب الصفرة، وباب الخضر”، فجزى الله خيرا أ.د عصام الذي عرفنا بمقالته الماتعة عن هذا الدر النضيد في تراثنا عن الألوان.
يتبع….