المنهج التاريخي (نشأته، وتقاطعاته مع المنهج الوصفي) بقلم أ.د/ عصام فاروق
نشأته، وتقاطعاته مع المنهج الوصفي
كان اكتشاف اللغة السنسكريتية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي نقطة الانطلاق الحقيقي للمنهج التاريخي، الذي يرى أن الفهم الحقيقي للظواهر اللغوية يقوم على النظر في تاريخها وتطورها ومن ثم سهولة ربط الجانب الوصفي بمسبباته التاريخية، ومن ثم كان ينظر إلى اللغة المتكلمة- التي هي أساس الدراسة الوصفية- على أنها ” شيء متغير خداع، وأن الجزء الثابت منها الذي يستحق الدراسة هو ذلك الموجود في اللغة المكتوبة “([1]) التي تمثل الأساس للمنهج التاريخي.
والانطلاق الحقيقي الذي وصفنا به هذا المنهج له ما يبرره، يقول روبنز:” من المألوف في علم اللغة أن يقال إن القرن التاسع عشر كان عصر الدراسة التاريخية والمقارنة للغات، وبوجه أخص اللغات الهندوأوروبية، وهذا أمر مسوغ بشكل كبير، ولكن هذا لا يعني أنه لم تجر قبل هذا الوقت بحوث تاريخية تقوم على مقارنة اللغات، ولا أن كل الجوانب الأخرى لعلم اللغة قد تم تجاهلها خلال القرن التاسع عشر، ولكن المسألة هي أن هذا القرن قد شهد تطورا في المفاهيم النظرية والمنهجية الحديثة لعلم اللغة التاريخي والمقارن، كما أن التركيز الأكبر للجهود العلمية والمقدرة لعلمية في علم اللغة كان مكرسا لهذا الجانب من الموضوع أكثر من غيره من الجوانب.” ([2])
وإذا كان المنهج الوصفي يوصف بالثبات كونه يقتصر على دراسة ظاهرة محددة في مكان وزمان معينين فإن المنهج التاريخي على العكس، من حيث حركة هذه الظاهرة بين عصرين أو أكثر؛ لرصد مظاهر التطور ومسبباته.
ومن ثم فإن المنهج ” التاريخي في الدرس اللغوي، عبارة عن تتبع أية ظاهرة لغوية في لغة ما، حتى أقدم عصورها، التي نملك منها وثائق ونصوصًا لغوية، أي أنه عبارة عن بحث التطور اللغوي في لغة ما عبر القرون، فدراسة أصوات العربية الفصحى دراسة تاريخية، تبدأ من وصف القدماء لها من أمثال الخليل بن أحمد، وسيبويه، وتتبع تاريخها منذ ذلك الزمان، حتى العصر الحاضر، دراسة تدخل ضمن نطاق المنهج التاريخي. ومثل ذلك يقال عن تتبع الأبنية الصرفية، ودلالة المفردات، ونظام الجملة.” ([3])
وإذا أضفنا إلى ذلك أن اللغات تصيبها سنة التطور، فإن رصد مظاهر هذا التطور والوقوف على أسبابه من الأمور المهمة لفهم الحركة التاريخية للغة، كما يوقفنا ذلك على الدلالات المتعددة التي لازمت اللفظ، عبر هذه العصور التاريخية المتعددة.
ولابد أن نشير حاجة هذا المنهج إلى المنهج الوصفي وقيامه عليه- وهو ما دعانا من قبل إلى وصف المنهج الوصفي بـ (سيد المناهج) لاعتماد المنهج المتعددة عليه وقيامها من خلاله- إذ إن دراسة اللغة عبر هذه المراحل التاريخية المتعددة تتطلب الوقوف بالوصف والتحليل للغة أو الظاهرة المدروسة فيها أولا، ثم المرحلة التالية ثم ما يليها، وهنا يأتي ربط هذه العمليات الوصفية ببعضها البعض من خلال المنهج التاريخي.
وقد عقد أستاذنا د. عبد المنعم عبد الله مقارنة بين هذين المنهجين، ([4]) هذا ملخصها:
[1])) أسس علم اللغة (164) ماريو باي.
[2])) موجز تاريخ علم اللغة في الغرب (237).
[3])) المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي (197).
[4])) ينظر: البحث اللغوي- أصوله ومناهجه (101، 102)
معيار التفريق | المنهج الوصفي | المنهج التاريخي |
الوظيفة | لا يتحاوز أطر الوصف وحدود التشخيص دون زيادة أو نقصان أو نقد. | يعتمد على ملاحظة التطور، ومتابعة التغيير، واستنتاج الأسباب التي أدت إلى ذلك. |
كيفية المعالجة | هو وسيلة لدراسة الظاهرة بطريقة أفقية، في مكان وزمان محددين. | هو وسيلة لدراسة الظاهرة رأسيا، أي عبر مراحل تاريخية متعددة. |
ميدان الدراسة | يمتد في معالجته البحثية إلى ميدان المنطوق والمكتوب، ومن ثم يصلح للدراستين الوثائقية والميدانية في آن واحد. | يعتمد على المكتوب في محاولة استنطاقه واستنباط ملامح التطور من خلاله. |
الطبيعة | يتسم بالسكون. | يتسم بالحركة. |
مدى الإفادة في التصنيف اللغوي قديما | أكثر حظا من حيث اعتماد اللغويين القدماء عليه، واعتمد عليه في مجالات كالنحو والصرف والأصوات. | كان أكثر اتصالًا بالدلالة من حيث المعالجات المعجمية وقضايا الدلالة المتعددة. |
والمنهج التاريخي يفيد في دراسة ألفاظ لغة قديمة متجذرة في عمق التاريخ كاللغة العربية ليقف على الدلالات المتعددة التي لازمت ألفاظها، فصاحبتها أو فارقتها أو أضيفت بجانبها معان ودلالات أخرى أو أزاحتها دلالات أخرى وحلت محلها.
ومن ثم فإننا مثلا في هذه الحالة ” ليست هناك فائدة في الاعتماد على المعجم وحده في معرفة معنى الكلمة واستعماله، لأنه – بكل بساطة- لا يضيف جديدا سوى الحصر، إن كانت في الحصر جدة، ومن هنا فإنه من الأهمية حين صناعة المعجمات – خاصة التاريخية منها- الاتصال بالنصوص في أقدم مظانها.
ومن أمثلة التطور في دلالة الألفاظ كلمة (السيارة) التي تعني عند القدماء (القدماء) أو (الجماعة). وقد ورد ذلك في الذكر الحكيم، قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) [يوسف: 19] وهناك معنى محدث، إذ يعرف (المعجم الوسيط) السيارة بأنها عربة آلية سريعة السير، تسير بالبنزين ونحوه، وتستخدم في الركوب أو النقل. ويحكم المعجم على تلك الدلالة بأنها (محدثة).” ([1])
من مجالات المنهج التاريخي في الدرس اللغوي:
كما قلنا من قبل فإن بعض الأبحاث والدراسات لا يصلح لها إلا المنهج التاريخي، حيث إن ذلك متربط بالهدف من البحث، فإذا كان الهدف الوقوف على تطور ظاهرة لغوية معينة فلاشك فعالية هذا المنهج في الوصول إلى هذا الهدف، ومن ثم فيُعتمد عليه في قضايا وموضوعات لغوية منها ما يلي:
– دراسة التغيرات الصوتية في العربية تعد دراسة صوتية تاريخية.
– دراسة صيغ الجموع في العربية بتتبع توزيعها وشيوعها في المستويات اللغوية المختلفة عبر القرون، تعد دراسة صرفية تاريخية.
– الجملة الشرطية في العربية وجملة الاستثناء في العربية عبر نصوص تاريخية متعددة
– دراسة التغير الدلالي وما يترتبط بها من إعداد المعاجم التاريخية.
– إعداد المعجم التاريخي، الذي يعمد إلى إيراد تاريخ كل كلمة منذ أقدم النصوص إلى أحدثها، متتبعا التطورات التي تعتريها، من أهم الممارسات اللغوية التاريخية، ويعد معجم أكسفورد في اللغة الإنجليزية من المعاجم التاريخية المهمة.
[1])) منهج البحث اللغوي (110)