بين اللسانيات الحديثة.. وعبد القاهر الجرجاني [1] بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب
أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب
بين اللسانيات الحديثة … وعبد القاهر الجرجاني (1)
اللغة عامل إنساني مشترك، وظاهرة اجتماعية تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وهذه الظاهرة الإنسانية تتشابه حتى وإن اختلفت عملية التواصل، فالجهاز الصوتي مشترك بين بني البشر، وعنصر الدلالة لا بد منه حتى تؤدي اللغة وظيفتها، ولا بد لهذا كله من قواعد عامة تضبطها، ولا يمكن لأي ظاهرة مهما كانت أن تكون نتاج طفرة، وإنما لابد لها من سابق تتكيء عليه وتتأثر به.
وكل ما يهم الدراسة أن تبرز أوجه التشابه والتلامس بين عبد القاهر وهؤلاء اللسانيين، وكيف تلاقوا روحياً في نقاط تعد من أساسيات الدراسات اللغوية على اختلاف التقنيات والوسائل المتاحة لدراسة اللغة في الفترة الأخيرة، وكيف يمكن الاستفادة من هذا التراث اللغوي العربي في عملية التحديث اللساني، وهل يكفي فقط مجرد التعاطف مع هذا التراث حتي يصل الأمر بنا في النهاية إلى مجرد التقديس، أم نتعامل معه بعين التهوين والازدراء؟!.
أعتقد أن الأمر يحتاج إلى شيء من المنهجية والإنصاف في وقت كُتِب فيه التاريخ اللغوي الإنساني حسب الميول والأهواء، لا كما ينبغي أن يكتب، فلم يحظ التراث اللغوي العربي إلا على سطرين من جملة التاريخ اللغوي العالمي، وكما يقول أحد الباحثين:” إن مؤرخي كل حقبة يدونون التاريخ ويفهمونه انطلاقاً من وجهة نظرهم، وهو ما يعني أننا نكتب التاريخ كما نريده، نحن نخلق التاريخ لاحقاً على نمط تفكيرنا، كما يقول جورج مونان: وبالفعل فإن تاريخ الفكر الإنساني، وهو التاريخ الذي كتبه الغربيون لا يعطي الفكر اللغوي العربي حقه التاريخي، مثلاً خص بلومفليدا في كتابه (اللغة) الصادر سنة 1933 الفكر اللغوي القديم عامة بما يقارب من خمس عشرة صفحة، لم يكن نصيب الفكر اللغوي العربي منها أكثر من سطرين”([1]).
وبغيتنا من هذا الطرح – وما يتبعه- هو تلمس أوجه التأثير التي أحدثتها نظرية ” النظم” في نظريات أشهر اللسانيين الغربيين، أمثال (فردنان دوسوسير) و(فيرث) صاحب نظرية السياق ويعد مؤسسها الأول، و(نعوم تشومسكي) صاحب نظرية التوليدية والتحويلية، أو النحو التجديدي، وكما قلت سابقاً لا يكفي مجرد الفهم لهذه النظريات حتى نطبقها على لغتنا، وإنما عماد الأمر مبنيّ على الاقتناع بما يقولون، فما يصلح لغيرنا ربما لا يصلح للغتنا، أو بتعبير أدق ربما تكون العربية في غنى عنه.
ولا أريد الإطالة بقدر ما أريد التفرقة بين تناول عبد القاهر للغة وتناول اللسانين لها، فمصطلح ” اللسانيات” من المصطلحات المألوفة قديماً وحديثاً، وخاصة بين المهتمين بدراسة اللغة، فهو من حيث التسمية لا يختلف كثيراً عن مصطلح” علم اللغة العام” أو” علم اللسان” أو” علم الألسنية” وإنما يظهر الاختلاف في كيفية التناول والمنهج المتبع في الدراسة؛ ففي الوقت الذى أدارت فيه
الدراسات اللغوبة القديمة وجهها للغات المنطوقة، واحتفت باللغة على
حساب اللهجة، وأولت اللغات الحية عناية واهتماماً دون اللغات الميتة،
وأصبحت اللغة مشاعاً للعلوم الأخرى كالفلسفة وعلم النفس والمنطق، ظهر علم اللسانيات الحديثة، فجعل من اللغة موضوعاً لذاته بصرف النظر عن طبيعة
اللغة، سواء أكانت مكتوبة أم منطوقة، متحضرة أم بدائية، حية أم ميتة،
قديمة أم حديثة، يظهر هذا جلياً من تعريف فردنان دو سوسير الذي يعد أبا اللسانيات في العالم” إن موضوع اللسانيات الصحيح؛ هو دراسة اللغة لذاتها ولأجل ذاتها” ([2])
ومن ثم يمكن تعريف اللسانيات: بأنها العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع بعيداً عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية”([3]) فأهم ما يميز اللسانيات أنها تتصف بالعلمية والوصفية والاستقلالية والعموم؛ فهي دراسة للغة تقوم على قواعد وأسس علمية، تبدأ من الملاحظة ثم التجربة ثم الاستقراء، ولا تهتم بالأحكام المعيارية من حيث الصحة والفساد، والصواب والخطأ، وإنَّما تصف الظاهرة كيفا كانت، وأينما وجدت، ولا تجعل اللغة نهباً للغات الأخرى؛ فهي تضمن لها استقلالها، بعيداً عن العلوم الأخرى، يقول الدكتور نعمان بوقرة:” إنَّ اللسانيات علم يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الواقع بعيداً عن النزعة العلمية والأحكام المعيارية؛ إذ ليس من أهداف اللسانيات بناء قواعد تقويمية تعصم اللسان من الخطأ كما هي الحال في قواعد النحو… وقد قرَّر سوسير أن مادة اللسانيات تتكون من جميع مظاهر الكلام البشري، سواء تعلق الأمر بكلام الشعوب المتوحشة، أو الأمم المتحضرة في العصور القديمة، كما أن المعتبر في هذه العصور ليس الكلام الأدبي المعياري بل جميع الأشكال التعبيرية” ([4]).
إذا فاللسانيات وصفية لا معيارية، تعتمد المنطوق والمحكي ولا تقتصر على المكتوب، وتعنى باللغات جلها، ولا تقتصر على رقعة لغوية محدودة، وقد ارتبطت نشأتها بهذا المفهوم بفردنان دو سوسير مصنف كتاب ” دروس في الألسنية العامة”.
لعل فيما سبق يوضح لنا الفرق بين دراسة عبد القاهر للغة ودراسة هؤلاء اللسانيين؛ فهم يدرسون لغة اللسان البشري لذاتها وفي ذاتها، كما هو واضح من تعريف دوسوسير السابق، فساقهم هذا المنهج الوصفي إلى استنباط قوانين عامة يمكن تطبيقها على جميع اللغات، أما عبد القاهر عندما ألف كتابيه” الدلائل” و” الأسرار” لم يكن بدافع دراسة اللغة في ذاتها، وإنما بغية الوقوف على أوجه إعجاز القرآن الكريم، ومن ثم فما توصل إليه عبد القاهر لا يعد قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على جميع اللغات، وإنما هو في إطار اللغة العربية وما يتعلق بمستوياتها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، وبالتالي فعبد القاهر من وجهة نظر اللسانيات الحديثة لا يعد لسانياً، وإن كانت اللسانيات القديمة ترى أن كل مهتم بالتراث اللغوي يعد لسانياً.
وبالرغم من استقلالية هذا المنهج، لم تدر اللسانيات ظهرها للعوامل التاريخية والجغرافية المؤثرة في اللغة؛ لأنَّها تستفيد من تراكم الدراسات اللغوية المقارنة، والبحث في أوجه التشابه والاختلاف بين هذه اللغات، وملاحظة التطورات الناتجة عن عوامل الزمن والمكان والثقافة، ومن ثمّ انقسمت الدراسات اللسانية إلى لسانيات عامة، ولسانيات تطبيقية، يقول الدكتور نعمان بوقرة:” ونتيجة للتقدم الحاصل في ميدان اللسانيات وفروعها المختلفة التي انبسقت عنها، تمّ تقسيم اللسانيات إلى فرعين كبيرين هما: (أ) اللسانيات العامة أو اللسانيات النظرية (ب) اللسانيات التطبيقية، فالأول: يدرس الظواهر اللغوية الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية وكذلك مناهج البحث في اللغة كالتاريخي والمقارن، أما الثاني: فيقوم على استغلال نتائج ودراسات اللسانيات العامة وتطبيقها في مجالات لغوية معينة”([5])
وسوف أتجاوز الحديث عن هذه الاتجاهات اللسانية وميادينها المختلفة، فهذا أمر تكفلت به كتب اللغة، وإنَّما الذي يعنينا هو وضع تصور عام لهذا العلم، والتعريف بأشهر اللسانيين الذين تجمعهم نقاط تقارب وتواصل بالإمام عبد القاهر، للوقوف على أهمية الفكر العربي القديم وأثره في الدراسات اللسانية الحديثة، فمن المسلم به أن عبد القاهر يمتلك ثقافة متنوعة ولديه عقلية لغوية وبلاغية ونحوية، وقد مزج بين هذه المعارف في نظرية ” النظم” ومن يقرأها لا يخطيء بعدها اللغوي وهو يتحدث عن المعنى والدلالة وربط الكلام بمقام استعماله، والأثر الصوتي والصرفي في المعنى، ويلمح في بعدها الآخر الجانب النحوي، الذي يعد صلب النظرية وأساسها كما هو واضح من خلال حديثه عن التعلق وتتبع الفروق والوجوه النحوية التي عبر عبد القاهر عنها بـ” معاني النحو” فضلاً عن رؤيته البلاغية التي أفادت من ثقافته اللغوية والنحوية.
وعبد القاهر بهذه الثقافات المتعددة يلتقي معه (سوسير) فيما يتعلق بالجانب اللغوي، ومع (فيرث) فيما يتعلق بالجانب البلاغي وتحليل النص، ومع (تشومسكي) فيما يخص الجانب النحوي.
ومن المعلوم أن هؤلاء اللسانيين لم يلتقوا عبد القاهر زماناُ ولا مكاناً، وإنما هو إلتقاء روحي وثقافي ساعدت عليه حركة الترجمة النشطة والانفتاح الثقافي، خاصة وأن مؤلفات عبد القاهر قد ترجمت أكثر من مرة، ولأكثر من جهة، وقد صرح نعوم تشومسكي باهتمامه بالتراث النحوي العربي قبل اشتغاله باللسانيات وسيأتي بيانه في بابه.
ولا أزعم أن ما قاله اللسانيون – السابق ذكرهم – قد سبقوا إليه من قِبل عبد القاهر، فهذا أمر لا تقرُّه العقول السليمة، ولا يقرُّه البحث العلمي الصحيح، فتفوق عبد القاهر في نظريته مما لا ينكره أحد، لكن يبقى القول: بأن ذلك منه كان في إطار اللغة العربية، وإنما لا أشك ولا يشك أحد من المنصفين أن الالتقاء بين هؤلاء اللسانيين وعبد القاهر الجرجاني كان في بعض المفاهيم والملاحظات اللغوية التي بُنى عليها الدرسُ اللساني الحديث واستفاد منها، ولو أحسن العرب فَهْمَ تراثهم، وقرؤوه وبنوا عليه لتغير وضع التراث العربي وموقعه بين الدراسات اللسانية الحديثة…ومن ثم على دارسي العلوم اللغوية عامة والبلاغية خاصة إعادة فهم التراث اللغوي بمستوياته الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، ثم إعادة صياغته بفكر يتلاءم مع طبيعة العصر ومنجزات اللغة، وبيان أثره في حركة النهضة الغربية.
يتبع…
===========================
([1]) ينظر مقال” أفق اللسانيات العربية ” دكتور/ مصطفي غلفان – موقع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب.
http://www.wata.cc/forums/showthread.php
([2]) محاضرات في اللسانيات العامة ص232 نقلاً كتاب اللسانيات اتجاهاتها وقضاياها الراهنة للدكتور/ نعمان بوقرة – عالم الكتب الحديث – ط الأولى – 1430هـ 2009م
ص 68، 73.
([3]) ينظرالمصطلحات الأساسية في لسانيات النص وتحليل الخطاب” دراسة معجمية تأليف/ نعمان بوقرة / عالم الكتب الحديث – ط الأولى – 1429هـ 2009م ص129.