مما استعمله العوام في ضد معناه الفصيح [الحلقة الأولى] بقلم أ.د/ هاشم عبد الرحيم
أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
مما استعمله العوام في ضد معناه الفصيح..
عرض ودراسة في ضوء علم اللغة المعاصر
تمهيد: أثر العامي على الفصيح
تدل (الفاء والصاد والحاء) عَلَى خُلُوصٍ فِي شَيْءٍ وَنَقَاءٍ مِنَ الشَّوْبِ.([1]) يقال: “أفصح الرجل: إذا أبان. وأفصح: إذا تكلم بالعربية. وأفصح اللبنُ: إذا سَكَنَتْ رغوتُه. وأفصح الصبحُ: إذا بدا ضَوْءُه.” ([2]) وفَصُحَ العَجَمِيٌّ بالضم فَصاحَةً: جادت لغته حتَّى لا يَلْحَنَ. وتَفَصَّحَ في كلامه وتفاصَحَ: تكلَّف الفصاحة… وأفصحَ العجميُّ، إذا تكلم بالعربية.([3]) و”فَصُحَ اللحَّانُ، إذا أعرب كلامَه ولم يلحن”([4]) و”الفَصَاحَةُ: الْبَيَان”. ([5])
فالفصيح على هذا: البيِّنُ اللّسانِ واللهجة.([6]) ولا يُبِينُ الفصيحُ إلا إذا خلا مما يخفي دلالته أو يبهمها، فلا تُنعت الكلمة بالفصيحة إلا اتسقت في مبناها ومعناها بحيث ترد على وَفق ما تكلم به العرب الخُلَّصُ في المبنى والمعنى.
أما العامية فقد انحرف بها عن الفصحى عيوبٌ شابتها، حيث تحور فيها اللفظ؛ لتطور صوتي أو بنيوي، أو تغيرَ فيها المعنى، حتى باين المسموعَ وخالفَ المألوفَ.
وعلل الدكتور أنيس -رحمه الله- شيوعَ لحن العوام المعاصر قائلًا: “وقد صرفت اللغة الفصحى أنظارَ الناس عن لغة كلامهم، فلم يعنوا بما عرض لها من تطور مع الزمن؛ ولهذا اتخذت في الأفواه أشكالًا وصورًا تباينت باختلاف الأجيال والعصور، والناس لا يشعرون ولا يلحظون تلك الفروق”([7])
ثم ألمح إلى المسار الذي سلكته العامية في انحرافها عن الفصحى قائلًا: “فأخذت اللهجة مجراها الطبيعي، وتغيرت جيلًا بعد جيل، وقد أدى كل هذا إلى ما نلحظه من فروق خطيرة بين لهجة الكلام واللغة الفصحى، واتسع لهذا البونُ بين لهجة الحديث وبين لغة الكتابة، مما لا نظير له في أية لغة من اللغات، فلم تجد اللهجة المصرية رقيبًا عليها أو حسيبًا، فانسابت خفية عن الأنظار تتغير في أفواه الناس دون أن يلفت هذا نظر أحد … ويمكن أن تُعْزى التغيرات في اللهجة المصرية إلى أخطاء كلامية بين الناشئين تُركت دون إصلاح أو لفت نظر؛ فتراكمت وبعدت عن الأصل بحيث أصبح من العسير إرجاعُها إلى الأصل إلا بجهد ومشقة.([8])
وما زال لحن العوام ينتشر ويتعاظم، ويفشو ويتفاقم، حتى استفزع أَلِبَّاءَ اللغة، فسطروا في “لحن العوام” عشرات المؤلفات، لاسيما في زماننا هذا، يبتغون إصلاح الأخطاء التي تفاقم أمرها حتى أصبحت مألوفة عند أكثر الخاصة بَلْهَ العوام، فشوهت وجه اللسان العربي المبين، ورَنَقَتْ صفو زلاله المَعين؛ مما يسوء كل طالب علم.([9])
وأكثر المعاني العامية يمكن تأصيلها وردُّها إلى الفصحى، ومنه ما جافاها حتى تمزقت أواصره بالفصحى، وتعذر تأثيله، ولا تجد إليه مسلكًا إلا تجشُّمًا، من ذلك استعمال العوام الكلمةَ في ضد معناها الفصيح، وسأبسط القول فيه في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
=======================
([1]) ينظر: مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس 4/506 (ف ص ح).
([2]) شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان بن سعيد الحميرى 8/5199، وينظر: مقاييس اللغة 4/506 ، 507 (ف ص ح).
([3]) الصحاح 1/391 (ف ص ح) بتصرف.
([4]) شرح الفصيح، لابن هشام اللخمي ص85 .
([5]) المحكم والمحيط الأعظم 3/164 (ح ص ف).
([6]) ينظر: مقاييس اللغة 4/506 (ف ص ح).
([7]) في اللهجات العربية، ص196 .
([8]) السابق: الموضع نفسه، بتصرف.
([9]) تقويم اللسانين، للدكتور: محمد تقي الدين الهلالي، ص136 ، بتصرف.