نظرية النظم… والتماسك النصي.. بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب
أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب
نظرية النظم… والتماسك النصي
إن شئت أن تجعل “النظم” و”التماسك النصي” شيئًا واحدًا فقد وفَّيْتَ “التماسك” حقه وزيادة، فـ” النظم” عند عبد القاهر لا يقتصر على معنى الترابط والتضام بين أجزاء الجملة الواحدة، بل يتجاوزها إلى إطارٍ أوسع ووحدة كبرى وهي “النصُّ”، ومن ثم نراه يؤكد على معنى النسج والإحكام والصياغة والتحبير والتعلق والضم والتأليف ومعرفة الوجوه والفروق بين الكلم، كما أن النظم عنده لا يقتصر على الترابط الشكلي بين الألفاظ، بل يمتدُّ ليشمل التماسك الدلالي بين معاني تلك الألفاظ، حتى ترى الجزء قائمًا بالكل، وترى الكل مستدعيًا ومكتنفًا للجزء في نسيج عجيب وفريد تتلاحم فيه الألفاظ بعضها مع بعض، فيتصل الأوَّل بالثاني والثاني بالأوَّل، ويبنى المُتقدِّم على المتأخِّر والمتاخِّر على المتقدِّم، فلا أثرَ للألفاظ عند عبد القاهر من حيث هي أصوات مسموعة وحروف متوالية في النطق ما لم تتلاقَ معانيها وتتسق دلالتها، فنراه يقول:”وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى:(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)([1])، فتجلَّى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنَّك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلَّا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض،وإن لم يعرض لها الحسن والشرف إلَّا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقربها إلى آخرها، وأنَّ الفضلناتج ما بينها وحصل من مجموعها، إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية، قل (ابلعي) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها، وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت، ثم في أن كان النداء بـ”يا” دون “أي” نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثمَّ أن قيل:(وغيض الماء)، فجاء الفعل على صيغة فعل الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى:(قضي الأمر)، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو استوت على الجودي، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة (قيل) في الخاتمة بـ(قيل) في الفاتحة، أفترى لشيءمن هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟([2])
ويتشابه مفهوم “التعلق” في قضية النظم مع مفهوم “التماسك النصّي” عند النصّيين؛ ذلك أن “التعلق” في نظر عبد القاهر هو عماد النظم وقوامه، فلا ترابطَ وتماسكَ بين أجزاء الكلام بدونه، ومن يقرأ عبارات عبد القاهر عن”التعلق” يدرك ما بينهما من علاقةٍ تلازمية، فلا نظم بدون تعلق، كما أنه لا تعلق بدون نظم، يقول عبد القاهر:”واعلم أنَّك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك”([3]).
ويقول في موضع آخر:” معلوم أن ليس “النظم” سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض”([4]).
وعبد القاهر بهذا الطرح يسعى إلى ترسيخ “البلاغة النصية”، وإن لم يسمها باسمها ويخطو بذلك خطوات واسعة حول تحديد مفهوم “التماسك النصي” يكاد بهذه الخطوات يوضع في مصاف النصّيين الأوائل؛ فهو لا يرى “التماسك النصي” محصورًا في مجموعة من الأدوات الشكلية أو اللفظية؛ كالعطف وأدوات الشرط والاقتران وعلامات الترقيم وأسماء الإشارة … وغيرها، وإنَّما يرى”التماسك” ضروريًّا– أيضًا – في المعاني والأغراض التي ينشئها المتكلم، وهو ما أطلق عليه النصيون المحدثون “التماسك الدلالي”، بمعنى أن تترابط دلالات الألفاظ وتتفاعل داخليًّا بحيث يسلم بعضها إلى بعض ويجعل بعضها بسبب من بعض، فتصبح متسقة منسجمة.
وفي حديثه عن الفصاحة نجده يتجاوز الكلمة حال إفرادها إلى مفهوم أوسع وأشمل وهو التركيب، ومن ثم توجهت عنايته إلى الحديث عن علاقة الكلمة وترابطها مع أخواتها من ناحية، واتِّساقها وحسن ملاءمتها من ناحية أخرى، فجاء حديثه عن”الفصاحة” نقطة ارتكاز حول مفهوم “التماسك النصي”، فهو لا يتحدث عن فصاحة خارج التأليف، وإنما يتحدث عن فصاحة تحدث بعد التركيب، فالألفاظ من حيث هي حروف وأصوات مسموعة لا تفاضل بينها حتى يعلق بعضها ببعض ويجعل بعضها بسبب من بعض، فنراه يقول:” فقد اتضح إذن اتضاحًا لا يدع للشك مجالاً أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ”([5]). ويقول في موضع آخر:” واعلم أنَّك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك”([6]).
وإذا خلا المعنى الاصطلاحي لمفهوم النص في التراث البلاغي عن (النسج) فإن قضية النظم قد استدركته وصرحت به، بما يمكن معه أنْ نسميَ ” النظمَ ” نصًّا، أو أنْ نسميَ ” النصَّ ” نظمًّا، وتظاهرت عبارات “النسج” و”التحبير” و”الوشي” و”البناء” و”النقش” على تأكيد هذا المعنى، وهي عباراتٌ ترددت كثيرًا في حديث عبد القاهر عن الضَّمِّ والتأليف والنظم، وهي مصطلحات تحمل دلالاتٍ مهمةً في الدراسة النصية، حتى إن من المحدثين من عَرَّفَ النَّصَّ بقوله:”نسيج من الكلمات”([7]).
ومن ثم فهي عباراتٌ تدلُّ على الإحكام والإتقان في الصنعة، حتى إنَّ العربَ كانت تمدح الرجل الحاذق الماهر في صنعته بقولهم: نَسِيجُ وَحْدَهُ، أي لا يضاهيه أحدٌ في صنعته؛ لتفرُّدِه، ومن ثم كثر حديث عبد القاهر عن تشبيه الناظم بالناسج والواشي والنقّاش والبنّاء والصائغ، فنراه يقول:” وإذا كنت تعلم أنهم استعاروا النسج والوشي والنقش والصياغة لنفس ما استعاروا له النظم، وكان لا يشك في أن ذلك كله تشبيه وتمثيل يرجع إلى أمور وأوصاف تتعلق بالمعاني دونالألفاظ، فمن حقك أن تعلم أن سبيل النظم ذلك السبيل”([8]).
وقوله:” واعلم أنَّ ممَّا هو أصل في أن يدقَّ النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت – أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثانٍ منها بأولَ، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعًا واحدًا، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك، نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعها بعد الأولين، وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدٌّ يحصره وقانونٌ يحيط به فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة”([9])، وقوله:”ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه”([10]).
هذا عن فكرة النص التي اشتملت عليها قضية النظم، أما عناصر التماسك النصي فيها، فالمتأمل في الفصل السابق يجد أن “التماسك النصي” عند المحدثين لا يختلف كثيرًا عن مفهوم “التماسك” عند عبد القاهر الجرجاني، حتى وإن لم يسمه باسمه؛ فحديث عبد القاهرعن النظم والتعلق والفصاحة ومعاني النحو والصياغة والنسيج والتحبير يؤكِّد اهتمامه بالترابط والعلائق بين الكلام.
وقد جاء حديث عبد القاهر عن الترابط بين أجزاء الكلام مفصلاً؛ حيث تطرق فيه للربط بأدوات العطف والحذف والشرط والضمير والتعريف والتقديم والتأخير والتكرار، وهي نفس الأدوات التي نص عليها المحدثون أمثال “فان دايك” و “رقية حسن” و “هاليداي”؛ ولذا نبه عبد القاهر في باب الفصل والوصل إلى أهمية أدوات العطف وتأثيرها في عمليتي الكتابة والتأليف، فنراه يقول:”واعلم أنَّه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه:”إنَّه خفي غامض،ودقيق صعب، إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى، وأدق وأصعب”([11]).
يتبع…
أ.د صالح أحمد عبد الوهاب
أستاذ البلاغة والنقد
ووكيل كلية العلوم الإسلامية
البريد الإلكتروني:saleh_hahmed@hotmail.cim
https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ
https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5
الهوامش:
[1]ـ- سورة هود الآية 45.
[2]ــ الدلائل صـ 45 – 46.
[3]ــ الدلائل صـ 55
[4]ــ الدلائل ص4-8.
[5]ـــ دلائل الإعجاز ص46.
[6]ـــ دلائل الإعجاز ص55.
[7]ـــ ينظرنسيج النص- تأليف: الأزهر الزناد- ط-المركزالثقافي العربي- بيروت،١٩٩٣م- ص12.
[8]ـــ الدلائل ص53.
[9]ـــ الدلائل ص93.
[10]ـــ الدلائل ص254، وينظر كذلك عناصر التماسك النصي بين نظرية النظم وعلم النص للباحث- مجلة كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان- العدد الأول- ص135 وما بعدها.
[11]ـــ الدلائل ص231.