عشر فوائد عن رسالة (فتيا فقيه العرب) لابن فارس.. بقلم أ.د/ عصام فاروق
(فتيا فقيه العرب) رسالة صغيرة ذات نفع كبير من رسائل الإمام أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب، القزويني، الرازي (395ه)، وهذه معلومات عشرة عنها:
الأولى:
تنتمي هذه الرسالة إلى الدراسات البينية؛ فهي رسالة لغويةٌ في ثوبٍ فقهيٍّ، تٌصنَّف كذلك ضمن الملاحن والألغاز، أراد بها مصنِّفُها الإمامُ ابن فارس- عليه رحمات الله- أنْ ينبه الفقهاءَ، وطلابَ العلم الشرعي مِن بعدِهم أنه لابد من امتلاكهم ناصية اللغة، ومعرفة معاني مفرداتها- خصوصًا المشترك اللفظي- ودلالات تراكيبها؛ حتى يقفوا على التفسير الصحيح لمضامين الأسئلة الفقهية؛ ومن ثم تأتي إجاباتهم عنها سليمةً شافيةً، وأن ينأوا بأنفسهم أن يكون ألعوبةً في أيدي العالمين باللغة ودروبها.
يقول القفطي عن ابن فارس: ((.. وإذا وَجَدَ فقيهًا أو متكلمًّا أو نحويًّا كان يأمر أصحابَه بسؤالهم إياه، ويناظره في مسائل من جنس العلم الذي يتعاطاه، فإنْ وجده بارعًا جَدِلًا جرَّه في المجادلة إلى اللغة، فيغلبه بها، وكان يحث الفقهاءَ دائمًا على معرفة اللغة، ويلقي عليهم مسائل ذَكَرَها في كتابٍ سماه كتابَ (فتيا فقيه العرب)، ويخجلهم بذلك؛ ليكون خجلهم داعيًّا إلى حفظ اللغة، ويقول: من قَصَرَ علمُه عن اللَّغة وغُولِطَ غَلِطَ)) [إنباه الراوة (1/129)]
الثانية:
ورد في صدارة عنوان الرسالة كلمة الفتيا؛ و(الفتيا والفتوى) اسمان من (أفتى)، ويعنيان: ما أفتى به الفقيه في مسألة، والجمع الفَتاوى. [ينظر: تاج العروس ( ف ت ي) 39/ 212]
الثالثة:
أما قيدُ (فقيه العرب) فلا يُقصد به شخص بعينه، وإنما هو لفظ عامٌّ كقولك: إمام المسجد لابد أن يكون على وعي بقضايا المجتمع. فلا نقصد بذلك إمامًا بعينه.
يقول السيوطي: (( وليس مراد ابن خالويه والحريري [ومن قبلهم ابن فارس] بفقيه العرب شخصًا مُعيَّنًا، إنما يذكرون ألغازًا وملحًا ينسبونها إليه، وهو مجهولٌ لا يُعرف، ونكرة لا تتعرف.)) [المزهر 1/637]
الرابعة:
على الرغم من صغر حجم هذه الرسالة فإنها تشتمل – في صلبها- على مائة مسألةٍ لغويةٍ أُلبسَتْ ثوبًا فقهيًّا، ضَمَّن ابن فارس كلَّ مسألةٍ منها لفظًا – أو لفظين- من المشترك اللفظي، له معنيان:
أحدهما قريب متداول، شهير بين الناس، يتبادر إلى الذهن وقت سماعه، والآخر: بعيد (هو المراد)؛ هو الذي عَقَدَ عليه المسألةَ الفقهيَّةَ المُلغِزة؛ معتمدًا في كونه مرادًا على المخزون اللغوي للفقيه المسئول، وفي بعض الأحيان على السياق – وما يشمله من قرائن- الذي لا يتناسب مع المعنى القريب بحال، ويوضح ابن فارس هذا المعنى البعيد المراد في نهاية المسألة.
الخامسة:
اعتمد ابن فارس في مسائل هذه الرسالة على المذهب الشافعي؛ مما دلني على أنه لم يكتبها في أواخر حياته؛ لما هو معروف عنه من تحوله- عليه رحمات الله- إلى المذهب المالكي في أواخر حياته؛ حزنًا على عدم شيوع مذهب الإمام مالك على علو قدره في (الرَّي: مقاطعة بفارس؛ إيران حاليًا) موطن إقامته، فأراد بهذا التحول أن يحييه في هذه البلاد وينشره بها.
السادسة:
أعتقدُ أن المصدر الأساس الذي اعتمد عليه ابن فارس في فكرة هذه الرسالة يقوم على رافدين:
الأول، تأثره بالمذهب الشافعي وقد كانت الألغاز الفقهية التي في ثوب لغوي مما يجيده الإمام الشافعي، ومن ثم أصحابه من بعده.
الثاني، تأثره بابن دريد، صاحب الملاحن التي تعد ( فتيا فقيه العرب ) أحد ضروبها، ولا يخفى تأثر ابن فارس بابن دريد بوجه عام، ويبدو ذلك واضحا في المقاييس، فقد كان الجمهرة أحد مصادرها الخمسة.
السابعة:
اعتمد ابن فارس في شرح المعاني على الإيجاز، وهذا ما تراه بيسر عند مقارنة تلك الألفاظ وشروحها في معجمه (المقاييس)، معتمدا في أغلب المواضع على الشرح بلفظ واحد يقرب به المعنى، كما أنه اعتمد على بعض الشواهد الشعرية، التي لم تخل من ظاهرة (بتر الشواهد) التي نجدها كثيرا في (المقاييس) مما يعد خاصية من خصائص التأليف لدى ابن فارس، كما أن الرسالة خالية من الاستشهادات القرآنية والحديثية، على الرغم من أن ابن فارس معروف بنزعته الدينية القوية، ويظهر ذلك بوضوح في ثنايا كتابه (الصاحبي).
الثامنة:
تعد هذه الرسالة سباقَّة في هذا المجال اللغوي- الفقهي، ونحا نحوَه فيها الحريريُّ (516ه) في المقامة الثانية والثلاثين المسماة بـ(المقامة الطَّيبية)، وذكر ذلك السيوطي في كتابه (المزهر)، تحديدًا في النوع التاسع والثلاثين: (معرفة الملاحن والألغاز وفتيا فقيه العرب).
التاسعة:
نشر الدكتور/ حسين محفوظ هذه الرسالة ضمن مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، عام 1377ه- 1958م، اعتمادا على نسخة وجدها في دار الكتب الرضوية (كتابخانه آستانه قدس رضوي) بمشهد في خرسان، بإيران، مكتوبة بخط سيف الدين النجفي سنة 1002ه نقلها عن النسخة التي كتبها لنفسه أبو علي نظام الشرف بن قوام الشرف سنة (627ه)، التي قرأها على كمال الدين حيد بن محمد الحسيني نقيب الموصل، عن أبي بكر بن سعدون بن تمام، عن أبو عبد الله بن بركات النحوي السعيدي، عن أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني (471ه)، عن القاضي أبي زُرعة رَوح بن محمد (423ه)، الذي رواها عن ابن فارس، عليهم رحمات الله جميعا.
العاشرة:
هذه مسألة من مسائل الرسالة، بشرحها:
المسألة الحادية والستون:
المتن:
(قِيلَ له: هل يُفسِدُ لُعابُ البَصِيرِ الماءَ القليلَ؟
قال: نَعَم.
البَصِير: الكلب.)
الشرح:
مفتاح المسألة: كلمة (البَصِير).
وهي من المشترك اللفظي الدال على أكثر من معنى، ومنها: العالِم، من أسماء الله تعالى.
المعنى القريب: المُتمتع ببصره، وهو ضد الأعمي، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50]، وهو فعيل بمعنى فاعل، والأصل: مُبصِر، وجمعه: مُبصِرون، وجمع البصير: بُصَراء. [ينظر: تاج العروس ب. ص. ر]
المعنى البعيد (المُراد): الكلب- كما ذكر ابن فارس- فمن أسمائه البصيرُ، سمِّي به؛ لحدة بصره، وقد ذكر السيوطي هذا الاسم ضمن أسماء عديدة للكلب في أرجوزته الموسومة بـ (التبري من معرة المعري)، قائلا فيها:
وعُدَّ من أسمائه البصيرُ :: وفيه لغزٌ قاله خبيرُ
والله من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير