حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

النظرية التداولية مقالات وبحوث [2] بقلم د. طارق أبو الطاهر محمود

مدرس أصول اللغة بجامعة الأزهر

الحمد لله رب العالمين، المتفرد بالخلود، الغني عن الشريك والولد، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، سيد الأولين والآخرين، وبعد.

فهذه المقالة الثانية في سلسلة مقالاتي عن النظرية التداولية، وقد سبق الحديث في المقالة الأولى عن التداولية من حيث التعريف في اللغة، والاصطلاح، وبيان مدى اتساق التعريف الاصطلاحي – رغم حداثته – مع معاني مادة ( د و ل )، واستعمالات علماء العربية لمشتقاته .

وفي هذا المقال سوف أتناول نظرية التداولية من حيث النشأة والتطور، وأسأل الله العون والسداد .

لم يكن ظهور التداولية كنظرية لغوية أمرًا حدث فجأة، إنما كان ظهورها من رحم العديد من النظريات اللغوية التي كانت سائدة على ساحة الدرس اللغوي؛ لذلك يمكن القول بأن التداولية تطورت ” ضمن مجموعة من المقاربات اللغوي من بينها تحليل الحوار Conversation Analysis ، وتحليل الخطاب Text Analysis، وتحليل الكلام / الخطاب Discourse Analysis ، بوصفها امتدادًا طبيعيًا لأطروحات النحو الوظيفي Grammar Function ، التي طورها هاليدي (1985)، ومنها أن المعنى ليس فيما يقول النحاة، ولا ما تقول المعاجم على ما لكليهما من أهمية، ولا في العمليات المعرفية المجردة من سياقها، لكن فيما يقصد من يستخدم اللغة، وما يريد، وفيما يفهم من يتلقاها استماعًا أو قراءة ، وفيما ينتج من دلالات من خلال ظروف السياق” ([1]).

والناظر في تاريخ الدرس اللغوي يجد أن العلماء لم ينظروا إلى المعنى نظرة على السواء، أو بمعنى آخر لم ينظروا إلى وظيفة اللغة نظرة واحدة، فقد وجدنا لهم طريقين في هذا الأمر هما:

الطريق الأول: يشمل النظريات اللسانية الصورية، وهي تلك النظريات التي قامت على أساس الفصل التام بين اللغة كظاهرة إنسانية، وبين الظواهر الاجتماعية الأخرى، فقاموا بدراستها، ووصفها بمعزل عن وظيفتها التواصلية ([2]).

ويعد دي سوسير أشهر القائلين بهذا المنهج، ممثلا للنظرية البنيوية؛ حيث نجح سوسير “في تحرير علم اللسان من العلوم الفلسفية والاجتماعية والنفسية، فجعله علمًا مستقلاً يقوم على أسس لسانية خالصة، وجعل موضوعه لسانيًا خالصًا، فاستبعد من الجوانب الفلسفية والمنطقية، وجعل الجوانب الاجتماعية والنفسية من اختصاص علم الاجتماع والنفس، في خارج علم اللسان”([3]).

فأصحاب هذا الاتجاه ترتكز عنايتهم على دراسة النظام اللغوي وعلاقة عناصر هذا النظام بعضها ببعض دراسة شكلية معزولة عن السياق سواء الاجتماعي أو الثقافي، وأبرز نظريات هذا الاتجاه : البنيوية ، والنحول التحويلي التوليدي ([4]).

الطريق الثاني: ويشمل النظريات اللسانية الوظيفية، أو التداولية، وهي التي تمثل أحد التطورات الأخيرة لما كان يدعى الدلالة التوليدية، والنظرية الوظيفية .

وهذا الاتجاه يعنى بدراسة الاستخدام اللغوي والضوابط التي تحكمه، مع اعتبار دور المقام والسياق لكل من المتكلم والسامع، والعلاقة بينهما مع ما يرافق الكلام من حركات الجسم، وتعبيرات الوجه، مع العناية بقدرة السامع على الكشف عن مقاصد المتكلم، والاستجابة لها .

ومن أبرز نظريات هذا الاتجاه : اللسانيات الاجتماعية، أو اللسانيات النظامية، النجو الوظيفي، التداولية([5]).

وجدير بالذكر أن المنهج البراجماتي اللساني من المناهج الحديثة في البحث اللساني، وهي ما زالت في مرحلة تطورها وتوسعها .

ويرجع ظهر البراجماتية اللسانية في الغرب إلى عاملين هما:

الأول: ظهور السيمياء البراجماتية التي أرسها الفيلسوف الأمريكي تشالرز بيرس، وقام بتطوريها تلميذه تشارلز موريس ، والذي كان له فضل في التمييز بين مختلف الاختصاصات التي تعالج اللغة، وهي : علم التركيب (النحو)، وعلم الدلالة، ويقصد به الدلالة التي تتحدد بعلاقة تعيين المعنى الحقيقي القائمة بين العلامات وما تدل عليه، وأخيرًا التداولية التي تعني في رأيه بالعلاقات بين العلامات ومستعمليها، فهو يرى أن التداولية لا تدرس اللغة المنطوقة وحدها، بل تدرس العلاقة بين الرموز أو العلامات المستخدمة ، وما تشير إليه، وعلاقة العلامات بعضها ببعض، وذلك فضلا عن العلاقة بين العلامات ومستخدميها أو مجال الاستعمال .

العامل الثاني في ظهور التداولية هو ظهور تيار الفلسفة التحليلية بزعامة (جوتلوب فريجة)، وهي الفلسفة التي تعنى في المقام الأول بتحليل المعنى، وقد أثرت هذه الفلسفة في بعض الفلاسفة مثل فيننجنشتاين، وأوستن، وجون سيرل، وهوسرل، وغيرهم ([6]).

وختامًا يمكن القول: إن مبتدع التداولية المفترض هو تشارلز بيرس،([7]) الذي كانت له اليد الطولى في المنعطف الحاسم الذي حصل صوب اللسانيات التداولية، إلا أن تلميذه تشارلز موريس هو الذي أدخلها ضمن إطار نظري يعنى فيه هذا المصطلح “العلاقة بين العلامات ومستعمليها” من خلال المقال الذي كتبه في 1938م انتهى فيه إلى مفهوم التداولية السابق ([8]).

   ويمكن إرجاع نشأة التداولية –بمفهومها اللغوي– إلى سنة 1955 عندما ألقى جون أوستن محاضراته في جامعة (هارفارد) ولم يكن يفكر في تأسيس اختصاص فلسفي للسانيات، فقد كان هدفه تأسيس اختصاص فلسفي جديد هو فلسفة اللغة.

يستنتج مما سبق أن التداولية –بوصفها منهجا يهتم بدراسة اللغة في الاستعمال ويكشف عن معنى المتكلم ومقاصده في السياق المحدد– اشترك في تأسيسه في العصر الحديث تياران رئيسيان هما: تيار تشارلز موريس، وتيار مدرسة أكسفورد. ولقد أفاد تشارلز موريس في التأسيس للتداولية من خلال “سيمائية ثلاثية الأبعاد”. الأسباب التي أدت إلى ظهور التداولية وتطورها وازدهارها:

أسباب داخلية.

أسباب خارجية.

أولا: الأسباب الداخلية:

اللسانيات التوليدية التحويلية التي لاحظت وجود ظواهر تركيبية ظاهرية يستحيل تفسيرها دون مراعاة السياق.

أن النحو لا ينبغى تفسيره، أو صياغة قواعده على أساس الحدس اللغوي بل على أساس ملاحظة الاستعمال الحقيقي للغة محل الدراسة.

إقصاء “الدلالة” من البحث اللساني في التيارات البنيوية وخصوصا الأمريكية.

ثانيا: الأسباب الخارجية:

ازدهار بعض العلوم والميادين المعرفية التي ترتبط باللغة كالمعالجة الآلية للغة في التوثيق والترجمة الآلية.

الحاجة الشديدة إلى استثمار منجزات اللسانيات في علوم مختلفة كالشعرية والبلاغة والأسلوبية.

الحاجة إلى البعدين الدلالي والتداولي إلى جانب البعد النحوي التركيبي ومنها:الحاجة إلى اتباع التوصيات العلمية العامة التي تطلب إنجاز الدراسات التكاملية، وترفض اختزالية الاتجاهات البنيوية والتوليدية ([9]).

وخلاصة القول إن : ” التداولية لم تصبح مجالا يعتد به في الدرس اللغوي المعاصر إلى في العقد السابع من القرن العشرين بعد أن قام على تطويرها ثلاثة من فلاسفة اللغة المنتمين إلى التراث الفلسفي لجامعة أكسفورد هم أوستن ، وسيرل ، وجرايس …. ومن الغريب أن أحدًا منهم لم يستعمل مصطلح التداولية فيما كتب من أبحاث” ([10]).

 وهكذا انتهى هذا المقال مع العزم – إن شاء الله تعالى – على إردافه بمقالات أخرى تتناول أهم مظاهر التدوالية ، والله المستعان . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

=======================

[1])) تبسيط التداولية، أ.د/ بهاء مزيد ، ص 20.

[2])) ينظر: الوظائف التداولية في اللغة العربية، د/ أحمد المتوكل، ص 8 .

[3])) النظرية البراجماتية ، د/ محمود عكاشة، ص 23، 24 .

[4])) ينظر: نحو نظرية عربية للأفعال الكلامية/ د/ محمود نحلة ، ص 157.

[5])) ينظر: الوظائف التداولية في اللغة العربية ، د/ أحمد المتوكل ، ص 8/ نحو نظرية عربية للأفعال الكلامية، ص157.

[6])) ينظر: النظرية البراجماتية ، د/ محمود عكاشة، ص 30، 31، وينظر تفصيل جهود هؤلاء العلماء في الفكر التداولي: النظريات اللسانية المعاصرة، د/ نعمان بوقرة ، ص 182 ، وما بعدها .

[7])) ينظر: مدخل إلى السيميائيات التداولية إسهامات بيرس ومورس، الأستاذ/ هواري بلقندوز، ص 2.

[8])) ينظر: التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ريول ، جاك موشلار ، ترجمة د/ سيف الدين دغفوس، وآخر، ص29.

[9]))تداوليات، مقال على الموسوعة الحرة ويكبيديا .

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA

وتداوليات مقال على موقع موسوعة كشاف العلمية .

https://www.kachaf.com/wiki.php?n=5ed53bf63f703753c87d85ef

[10])) آفاق جديدة في البحث اللغوي ، د/ محمود أحمد نحلة ، ص9 ، 10 .

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu