حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

ديوان (العبور الأخير).. قراءة في العتبات النصية [الحلقة الخامسة] بقلم: أ.د/عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية للطلاب الوافدين لشئون الدراسات العليا- جامعة الأزهر

رابعا- التناص الشعري في الديوان:

تحدثنا عن الخلفية الدينية للشاعر وانتمائه الأزهري البادي في مواضع من ديوانه، ويدلل على ذلك – أيضا- جانب من التناص الشعري، الذي اعتمد فيه الشاعر على بعض العناصر اللفظية من آيات القرآن الكريم، واقرأ معي هذه التراكيب القرآنية: (ولا تبتئس- وأسمع بهم- فأبصر بهم ) وقد وردت في قصيدة واحدة (لا تطرق الباب).

وكذا قوله في قصيدة (موج بلا ماء): (أنساب.. تصغي الرؤى لا موج يعصمها :: ياراكب الفلك هل مائي هنا مائي؟) وراجع هذه التعبيرات في (سورة هود) تلفها قريبة منها، متأثرة بها.

ويتضح هذا التأثر القرآني أكثر ما يتضح في قصيدة (وجه العابر)، حيث أشار الشاعر صراحة إلى بعض سور القرآن الكريم، واقرأ الجمل الآتية:

  • ” وما أشبه الليل بالعاديات..
  • وما أشبه العهن بالراسيات “
  • ” معي (والسماء) (وما يسطرون)..”
  • “ستحكي الأيائل والنازعات.
  • وتبكي الصواهل والعاديات”

وكذلك ( قصة الغراب ) في سورة المائدة حاضرة في ثنايا الديوان، واقرأ في قصيدة (بقايا الدماء) قوله:

أشارت إلى أخته كفنيه

فظل الغراب يفتش

حتى يواري به ما استحق الثواء.

ثم تطالعك في قصيدة (العبور الأخير) هذه العبارات:

ستبحث غربان قابيل عنّا

ويغفو النعام على بعد يوم

يواري سنا الحلم في فوهات الخطر.

ثم لا يفوت الشاعر وهو يتحدث عن العشق وآلامه أن ينهل مرارا وتكرارا من أيقونة الحب في القرآن الكريم، فالشاعر متأثر في مقامنا هذا بالقصة التي تحوي قلبا محبا مفطورا من أبٍ يشبه الثكالى، لا يبرح الحب أن يفارق قلبه مع ما مضت من سنوات كانت على قلبه عجافا، كما تحوي القصة عشقا للنفس ودنها كل شيء، من إخوة رأوا أنهم أحق بما في قلب أبيهم من أخيه، وكذا عشقٌ غير منضبط بقوانين السن والإكرام والمنزلة الرفيعة، كعشق امرأة العزيز، ثم ذلك الحب الفطري الذي يجعل المرء يكظم غيظه ويعفو عن المسيئين، حب يتسامى عن حظوظ النفس في الأخذ بالثأر أو إظهار النعمة المادية أمام من سلبوه النعمة المعنوية المتمثلة في عطف الأب وحبه الذي لا حدود له.

أمام هذه الصورة من الحب والعشق تجد بين ثنايا سطور الديوان أبعاضا من هذه القصة (قصة سيدنا يوسف)، تعاود الشاعر ما بين القصيدة والأخرى؛ لتظهر ذلك التلبس القرآني المسيطر على عقلية الشاعر ونفسيته، فهو يعود إليها في مواضع منها:

  • في قصيدة (ما لم يقله النور):

(يا صاحبي وباب السجن دونكما :: كيف الهروب لقلب ذاب إصرارا

لا تأكل الطير من أسلاب معتصم :: ………………………..)

  • وفي قصيدة (العابرون سدى):

(آه على ظهر الطريق لعابر :: ألقوه في جبي ليصبح مائي)

(يأوي إلى طير فيأكل رأسه :: ما شاء من قصّ ومن إصغاء)

(طال الطريق وراودته صبية :: بدوية تمشى على استحياء)

ويلي هذا التناص القرآني تناص من الشعر العربي القديم، حيث يستلهم شاعرنا منه ما يعبر به عما يختلج في نفسه من معان ودلالات، لكني لاحظت أنه لا يأخذ من ديوان العرب ألفاظ بعض أبياته فحسب وإنما إيقاعها أيضا، فما أن تقرأ البيت في قصيدة إلا وتجد البيت قريبا إلى نفسك، مستأنس، معهود، مقروء من قبل، ولعل هذه الاستدعاء من الشاعر لهذه الأبيات أو وزنها استدعاء لا إرادي أتي نتيجة تأثره بالتراث العربي، وانغماسه في أدبياته وأشعاره.

لك أن تقرأ من قصيدة (إنذار بالشوق) قوله:

( يا ساكن القلب أدرك موجعا دنفا )

نعم، إنه الإيقاع نفسه وبعض الكلمات نفسها لقول شوقي الشهير:

( يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم )

كما يتضح تأثره ببعض الأشعار المعاصرة، فما أنت تلبث أن تقرأ في قصيدة (أكنت هناك؟) قوله:

تحمّلت زادي وآنست ناري

لعلي بها أرقب العاديات

إلى قمح جدّي وسكر أختي

وأدوية كنت فيها أصولْ.

لتدرك أن الشاعر متأثر بكلمات محمود درويش:

أحن إلى خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسة أمي.

كما نلحظ تناصا لبعض الأمثال العربية، فالشاعر متأثر ببعضها تأثرا واضحا، حيث بقيت هذه الأمثال في عقل الشاعر ومن ثم استحضرها وقت أن استقام له وزنها وقافيتها في بعض الأحيان واعيا بذلك أو لا.

ولك أن تقرأ في قصيدة (ما لم تقله العين) قوله:

فقد عشقت هوى في القلب أثمله :: وبتُّ أضرب أخماسي بأسداسي

كما نجد مثل هذا في قصيدة (وجه العابر) في قوله:

” وما أشبه العهن بالراسيات

وما أشبه اليوم بالبارحهْ “

ومن ألطف التناص عند الشاعر ما أخذه من ابتهالات دينية أداها (عبد الحليم حافظ) من كلمات عبد الفتاح مصطفى، وهو دعاء بعنوان: (أنا من تراب) ليوظفه شاعرنا في قصيدة (من أين أبدأ) قائلا:

أنا من تراب ويح ليل نازف :: كيف استراح ودمع عيني أسئلهْ

أنا من تراب ليتني حمَّلته :: وجع السنين وما رحمت تبتّلهْ

وبعد،،

فلعلي استطعت بهذه السطور التي هي نتاج قراءة سريعة لعتبات الديوان، وبعض ما بين سطوره، التي أجاد الشاعر في تسطيرها لفظا ومضمونا، إجادةً تضعه في الصفوف الأولى لشعراء العربية المعاصرين، وتسطر اسمه ضمن حاملي لواء العربية الخالدين، إنْ على مستوى إبداعه أو مستوى تخصصه الأكاديمي، داعيا المولى له ولنا التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu