حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الحلقة الأولى: علم اللغة العام وقضاياه

بقلم أ.د/ عصام فاروق

تعريف علم اللغة العام وقضاياه

 علم اللغة من العلوم اللغوية المهمة التي تتوافر على دراسة اللغة بصورة علمية منهحية لها معاييرٌ محددةٌ وأطرٌ معينة، يسعى من خلالها إلى دراسة اللغة في صورتها الإنسانية، أي بيان المعايير الحاكمة للغات في حياتها وموتها، وقوتها وضعفها، انتشارها وانكماشها، وغيرها من القضايا ذات الطابع العام.

واسم هذا العلم مكون من ثلاث كلمات وإن شئت فقل ثلاثة مصطلحات لكل منها دلالته، ولكل دلالة محترزاتها، فأول هذه المصطلحات (عِلْم)، وهو كما ينصُّ مجمعُ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ: (( إدراك الشيء بحقيقته.. ويطلق على مجموع مسائلَ وأصولٍ كليّةٍ تجمعها جهةٌ واحدةٌ، كعلم الكلام، وعلم النحو..)) ([1]) ويخرج هذا المصطلح ما عداه من عمليات عشوائية لا تؤطرها حدود منهجية، فالبحث العلمي غير البحث عن سلعة من السلع، فبينما يتسم الأول بالمنهجية، يتصف الثاني بالعشوائية التي تحددها المواقف وأماكن الشراء وندرة السلعة وغيرها.

ويأتي مصطلح (اللغة) ليضبط هذا العلم ويحدد مجاله، فلا شك أن المجالات المعرفية متعددة تنتظم كل مجموعة منها في عقد يضمها ويميزها عن غيرها، فمن المجالات المعرفية: المجالات الإنسانية والاجتماعية، والمجالات الطبيعة. فإلى أي هذه المجالات ينتمي علمنا الذي سندرسه؟ ينتمي إلى المجال اللغوي المندرج تحت المجالات الإنسانية والاجتماعية.

واللغة كما حدَّها ابن جني (392ه) في أقدم تعريف عربي لها هي: (( أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. )) ([2])

ومن الواضح أن هذا التعريف عامٌّ يشمل الجوانب التي تخص أي لغة، مما يجعله تعريفا للغة بشكل عام، دون النظر إلى كونها عربية أو عبرية أو سريانية أو لاتينية أو غيرها. وتتضح هذه الجوانب فيما يلي:

أولا- صوتية اللغة:

فكل لغة بشرية هي لغة صوتية في المقام الأول؛ لأن الأصوات أرقي مظاهر اللغة قاطبة، والمظاهر الأخرى تابعة لها خادمة إياها، فما ظهرتْ لغة الإشارة على سبيل المثال إلا كحالة استثنائية فرضتها ظروفٌ خاصةٌ للمتعاملين بها، وما الكتابة إلا ظلّ لهذه الأصوات ورموز مترجمة لها، لكن يبقي للأداء الصوتي اليد الطولى في التعبير، ولك أن تستمع إلى جملة (نجح محمد) بأدائها التنغيمي المتعدد ما بين الإخبار  العادي، والإخبار المفاجئ، والاستفهام، والاستهزاء، وغيرها من المعاني التي لا تعبر عنها كتابةُ الجملة مجردَ كتابةٍ، دون مصاحبة الأداء الصوتي.

ثانيا- تعبيرية اللغة:

كما يشتمل التعريف على الوظيفة العليا للغة، وهي التعبير عما يخالج النفس البشرية، سواء أكان هذا التعبير تواصلي يهدف الحوار بين الناس لقضاء حاجاتهم اليومية أو التعبير الفردي الذي يعمل الفرد من خلاله على إخراج تلك الشحنة العاطفية التي تعتمل فؤاده في شكل شعر أو خطابة أو غيرها من الأشكال التعبيرية، ولاشك أن التعبير بالأصوات الأدق والأقوى من حيث وصول الدلالة إلى المتلقي، بتلك الأغراض المتعددة التي يعمل الفرد على التعبير عنها من خلال اللغة. ولذا فإن قيد (أغراضهم) دقيق غاية الدقة، ذلك أنَّه إذا كانت الأغراضُ تعني المقاصدَ، ، فإن الغَرَض أيضًا: ” الشيءُ يُنصبُ فيُرمى فيه، وهو الهدفُ.”([3]) وهو ما يدل على انتقال هذه الكلمة من الدلالة الحسية، المتمثلة في (إصابة الهدف) إلى الدلالة المعنوية وهي (القصد)، وكأن المتكلم يعبر عما يريده من خلال إصابة المعنى بدقة، كرمي السهم على الغَرَض.

ثالثا- اجتماعية اللغة:

لا يفوت تعريف ابن جني أن يؤكد على الهوية الاجتماعية للغة، فاللغة بنت المجتمع كما يقولون، تنشأ من خلاله، وتصطبع بصبغته، وتتلون بألوانه، ولك أن تنظر إلى البيئة الصحراوية التي انطبعت في ذاكرة العربي القديم فشبه المرأة بالقمر؛ لأنه لا ينفك يراه ماثلا أمامه في السماء، ويشبه الوفي بالكلب، والمتحمل الصعاب بالجمل، وغيرها من المفردات التي أملتها عليه تلك الطبيعة البيئية والعادات الاجتماعية ذات الطابع الخاص، حتى وجدناه يكثر من الأصوات المجهورة، تلك الجهارة التي تتطلبها تباعد المسافات وخلو المساحات، على عكس الحضري الذي انتقي من الأصوات مهموسها ليكثر منها في حواراته وتعاملاته، لا لشيء إلا مراعاة للبيئة الضيقة، والطباع الهادئة الوديعة.

ويختم مصطلحُ (العام)  هذا التحديد لعلم اللغة ليكون في مقابل (علم اللغة التطبيقي) الذي يهدف إلى دراسة اللغة لأمور ليست في ذاتها ولأجل ذاتها بخلاف (علم اللغة العام) كما سندرس الآن:

فإذا جمعنا هذه المصطلحات الثلاثة خرج لنا تعريف العلم الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو (علم اللغة العام)، ويعني: دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها.

وفي هذا التعريف قيود ثلاثة، تتمثل فيما يلي:

  • قيد (دراسة اللغة)، فتناول اللغة هنا قائم على المنهجية العلمية.
  • قيد ( في ذاتها ) الذي يدل على أن دراسة اللغة تنبع من داخلها، بدءًا من أصغر لبنة في اللغة وهي الأصوات، مرورًا بصيغة الكلمات أو بنيتها الصرفية، وكذا التراكيب أو الجمل، انتهاءً بالدلالة التي تعني الوقوف على المعاني المرادة من ألفاظ اللغة وتراكيبها، فدراسة اللغة هنا تنبع من داخل اللغة لا عن طريق عوامل خارجية كالمجتمع أو النفس، على الرغم من أهمية تلك العوامل في تشكيل اللغة وتنويع تراكيبها وتبادين دلالاتها.
  • عبارة ( لأجل ذاتها ) تدل على أن هدف هذه الدراسة ينصب على خدمة اللغة، لا خدمة غيرها، فاللغة هنا هي المعني بالدراسة، لا أن تكون اللغة خادمة لغيرها.

وقبل أن نبدأ الحديث عن العناصر التي يدرسها علم اللغة لابد من توضيح أن اللغة وعلومها من علوم الآلة الخادمة لعلوم المقاصد كالتفسير والفقه وغيرهما، مما يجعل لتعلم اللغة وعلومها منزلة كبيرة، وضَّح تلك المنزلة أبو إسحاق الشاطبي (790ه) بقوله: (( العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام: قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه، كعلوم اللغة العربية التي لابد منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك..))([4])

من الواضح مما سبق أن القضايا العامة لعلم اللغة تتناول مستويات اللغة الأربعة: المستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوي النحوي، والمستوى الدلالي، لكننا سنكتفي هنا بجانبي الأصوات والدلالة بحسب توصيف المقرر للبرنامج.

 

القسم الأول- علم الأصوات

  • مفهوم علم الأصوات:

يمكن تعريف علم الأصوات بأنه العلم الذي يدرس الصوت الإنساني اللغوي، فلا يعنى هذا العلم بالأصوات عموما؛ لأن الأصوات كثيرة فمنها ما يخص الحيوان كمواء القطة، وزئير الأسد، وغيرها، ومنها ما يخص الجمادات كصوت تحريك الكرسي وطرق الأبواب وغيرها، ومن الواضح من خلال التعريف السابق أنه لا يعنى بمثل هذه الأصوات، حيث إن ما يهمنا في دراسة هذا العلم هو الصوت الذي يصدره الإنسان للتفاهم والتواصل مع الآخرين، لا أي صوت يصدر عن الإنسان، كصوت النائم، وتألم المريض وغيرهما، وإنما هو الصوت المكون من سلسلة من المقاطع الصوتية المتنوعة.

الصوت الإنساني ومراحل حدوثه:

للصوت الإنساني مراحل متعددة يمر بها، ذكر بعض العلماء أنها تتمثل فيما يلي:

مرحلة نفسية: تبدأ مع إرادة المتكلم إصدار صوت أو سلسلة من الأصوات لتعبر عما يريده.

مرحلة نطقية: تبدأ فيها أعضاء النطق بالتحرك لترجمة هذه الإرادة السابقة وتخرجها في صورة أصوات تخرج من مكان معين في الجهاز الصوتي، وتبدأ هذه المرحلة من الرئتين وتنتهي بالشفتين أو الأنف.

مرحلة فيزيائية: يتم من خلالها حمل الصوت الخارج من الفم أو الأنف عبر وسيط فيزيائي معين غالبا ما يكون الهواء ليصل إلى أذن السامع، ويمكن القول إن هذه المرحلة تبدأ من فم المتكلم وتنتهي بأذن السامع.

مرحلة سمعية: يتم من خلالها سماع الصوت من خلال جهاز السمع لدى الإنسان، وتبدأ هذه المرحلة من أذن السامع وصولا إلى شعيرات داخلها يتم ترجمة ما تحس به إلى العقل.

مرحلة نفسية: يتم من خلالها فهم السامع ما يريده المتكلم فيلبي طلبه أو يفهم مقصده.

وما يدخل في اختصاص علم الأصوات بشكل أساس هي المرحل الثلاثة المتوسطة، في حين يعنى أكثر ما يعنى بالمرحلتين الأولى والأخيرة علمُ النفس.

  • موضوع علم الأصوات:

موضوع علم الأصوات هو الأصوات الإنسانية اللغوية. وتدرس تلك الأصوات من حيث:

كيفية صدورها، فنتعرف على أعضاء الجهاز الصوتي ودور كل عضو منها في عملية إخراج الصوت أو تقويته أو تنويعه، ونتعرف على الأماكن التي تخرج منها الأصوات أو تصدر فيها أو ما يعرف بالمخارج، وكذلك الصفات التي تتصف بها الأصوات سواء أكانت هذه الصفات متضادة كالجهر والهمس، أو مفردة كالقلقلة حيث لا ضد لها، وكذلك نتعرف على الإجابة عن أسئلة متعددة منها:

  • لماذا تختلف أصوات الرجال عن أصوات النساء؟
  • لماذا يختلف صوت الإنسان عن غيره؟
  • لماذا يتغير صوت الإنسان في حالات معينة كالإصابة بالأنفلونزا على سبيل المثال؟
  • كيفية انتقالها، وانتقال الأصوات يحتاج إلى وسيط معين غالبا ما يكون الهواء كما قلنا وبالطبع فإن هناك أشكالا وتنوعات تحدث للصوت في هذه المرحلة ينتقل من خلالها مركزا أو مشتتا ليتم سماعه واضحا أو مشوشا.
  • كيفية سماعها، فنتعرف على الجهاز السمعي والخصائص السمعية لكل عضو من أعضائه، والمعوقات التي تقابل سماع الأصوات بوضوح، وغيرها من الأمور المتعلقة بهذا الجانب.
  • علم الأصوات وتعليم العربية للناطقين بغيرها:

لعل العلاقة بين علم الأصوات ومجال تعليم اللغة لغير الناطقين بها تتضح من خلال الإجابة عن الثلاثة الأسئلة التالية:

  • هل يحتاج معلم اللغة العربية للناطقين بغيرها إلى دراسة علم الأصوات؟
  • ما حدود هذه المعرفة هل سيُلم بجميع قضايا هذا العلم أم أن هناك جوانب معينة يساعده في أداء وظيفته المحددة بتعليم هذه الفئة؟
  • ما الفوائد التي ستعود عليه من وراء هذه المعرفة؟

بداية نقول: نعم، يحتاج معلم اللغة العربية للناطقين بغيرها إلى دراسة جوانب من علم الأصوات تعينه على مهمته؛ لأن اللغة – أي لغة- تتكون من مجموعة من المستويات تبدأ بالمستوى الصوتي، حيث إن الأصوات أصغر وحدات لغوية تشكل منها النصوص، ثم مع تكون الأصوات بجانب بعضها تتشكل لدينا البنية، وهذا هو المستوى الصرفي، وعند تكون الكلمات بجانب بعضها البعض يظهر لنا المستوى النحوي، وفي مقابل هذه المستويات اللفظية هناك المستوى الدلالي، الذي يعني بالمعاني.

وبما أن المظهر الأوضح للغة – أيَّة لغةٍ- هو ما يتعلق بالمستوى الخاص بأصواتها، الأمر الذي حدا بابن جني أن يُعرِّف اللغة به، كما سبق وتحدثنا فإنَّ الجانبَ الأكبرَ من عناية الباحثين والمتخصصين في مجال تعليم اللغات الثانية ينصب على ذلك المستوى الأهم من مستويات اللغة، ويولونه من الأهمية ما لا يولونه لغيره.

ذلك أن هذا المستوى على وجه التحديد يتغلغل في كيانات المهارات اللغوية الأربعة المعروفة، فلا تنمية للتحدث، أو الاستماع، أو القراءة، ولا حتى الكتابة إلا بمراعاة مبادئ وقواعد صوتيَّة.

فإذا كان الهدف الأسمى لمهارة التحدث أنْ يُتقنَ المتعلِّم النطقَ الصحيحَ فكيف سيتم ذلك دون مراعاة القواعد الصوتية للغة المتعلَّمة؟

وكذلك كيف سيحقق المتعلِّمُ تنميةً واضحةً لمهارة الاستماع دون الوعي بأصوات اللغة، والتمييز بينها، وفهم حدود كل منها، والفروق بينها. تلك الفروق التي تُحدثُ فروقًا موازيةً في المعنى في أغلب الأحيان؟

وكيف تكون القراءةُ صحيحةً إذا لم يكن لدى المتعلم الوعي الكافي بالتفريق بين نطق الأصوات، ومراعاة متى يصل كلامه، وأي المواقف تقتضي الوقف، ومراعاة الجوانب الأدائية كالنبر، والتنغيم، كيف سيصل إلى ذلك كله وغيره إلا بمراعاة جانب الأصوات؟

ثم كيف يكتبُ المتعلِّم كتابةً صحيحةً خصوصًا في حالات الإملاء الشفهي التي يُعتمَد فيها على الاستماع الجيد، وترجمته إلى حروفٍ مكتوبةٍ تُطابِقُ ذلكَ المسموعَ، أنَّى له ذلك إلا بمعرفة أصوات اللغة، وإتقان التمييز بينها؟

كذلك فإن متعلم العربية من الناطقين بغيرها – على سبيل المثال- تحدث لديه مشكلات كثيرة في الصدارة منها المشكلات الصوتية، من حيث صعوبة بعض الأصوات العربية غير الموجودة في لغته، وتشابه بعضها الآخر مع أصوات موجودة في لغته؛ مما يوقعه في الخلط بين أصوات لغته وأصواتنا العربية. وبالتالي فلابد أن يكون معلم الناطقين بغير العربية على وعي بهذه المشكلات الصوتية من حيث طبيعتها وأسبابها، وسبل حلها. وكل ذلك يتطلب وعيا بالأصوات العربية من جوانب عديدة.

أما حدود هذه المعرفة فتتمثل في مباحث منها:

  • مرحلة إصدار الصوت:

من المعروف أننا كمتحدثين للغة العربية أو ناطقين بها لا نختلف عن الناطقين بغيرها في المرحلتين: الفيزيائية والسمعية، فالوسيط الذي يحمل الذبذبات والموجات الصوتية إلى أذننا وكذلك العوامل المؤثرة في النقل الجيد لهذه الحاملات الصوتية لا تختلف عند أمةٍ عن أمةٍ أخرى، كما أن طريقة استماعنا إلى الأصوات طريقة واحدة لا يختلف فيها قومٍ عن قومٍ، دعك من أمر السماع جيدا أو المؤثرات التي تؤدي إلى عدم السماع الجيد، فهذه لا علاقة لها باختلاف الأمم ولغاتها.

أما المرحلة النطقية وكيفية استثمار الجهاز الصوتي من خلالها فهو السبب الأساس لاختلاف اللغات، ففي حين تمتاز لغة بأصوات معينة، ويستخدم المتحدثون بها مواضع معينة لإخراج الأصوات، تتوزع تلك المخارج عند أهل لغات أخرى على مواضع أخرى، ومما تشتمل عليه هذه المرحلة دراسة:

  • الجهازان الصوتي والسمعي ودورهما في عملية التواصل:

ما دامت وسيلة النطق هي اللسان ووسيلة الاستماع هي الأذن، فإن المتعلم لابد أن يكون على دراية بدور الجهازين النطقي والسمعي لدى الإنسان، والإلمام غير المتعمق بأعضاء هذين الجهازين، والدور الصوتي أو السمعي الذي يؤديه كل منها.

  • أعضاء النطق ومخارج الأصوات:

وما يمكن الإشارة إليه هنا لما له من علاقة مهمة بحديثا، وكون تلك الإشارة من المداخل المهمة لتعليم اللغات، هو أن الجهاز الصوتي عند الإنسان يكاد يكون واحدا، لا فرق في ذلك أمة عن أخرى، بينما يتمثل عامل التمييز الأساس بينها في استثمار المخارج التي تنتج الأصوات، أو بمعنى آخر اختلاف أصحاب اللغات عن بعضهم البعض في كيفية استعمال تلك المخارج وتوزيع الأصوات عليها. ويبقى أن هناك تشابها بقدر أو  آخر بين اللغات، يزيد هذا التشابه عند انتماء اللغات إلى فصيلة لغوية واحدة، كالتشابه بين اللغة العربية على سبيل المثال واللغة العبرية، كونهما تنتميان إلى الفصيلة السامية، بينما يقل هذا التشابه إذا اختلفتْ الفصيلة، كالأصوات العربية ونظيرتها الإنجليزية، حيث تنتمي الأخرى إلى الفصيلة الهندية – الأوروبية.

وقد ذكرت ( أن الجهاز الصوتي عند الإنسان يكاد يكون واحدا ) ولم أجزم بتلك النتيجة؛ نظرا لوجود اختلافات توصل إليها علم الأنثروبولوجيا التشريحي (Anthropology physiological) ، وعلم اللغة الإنثروبولوجي (Anthropological Linguistscs)، ومن هذه الاختلافات على سبيل المثال:

  • العضلة المضحكة resorius التي تساعد الشفتين على الامتداد أفقيا، عند البسمة العريضة، وهي عضلة مزودجة توجد على جانبي الشفتين.

ومن الغريب أن هذه العضلة المضحكة ليست موجودة لدى الناس كافة. فقد توصلت إحدى الدراسات التشريحية إلى أن هذه العضلة موجودة لدى 20% فقط من الأستراليين الأصليين، وأن 60% فقط من الأفريقيين يمتلكون هذه العضلة، وأن 75-80% من الأوروبيين لديهم هذه العضلة، في حين وجدت لدى الصينيين وأهالي جزر الملايو بنسبة 100%.

إن ما يهمنا هنا لا ينصب على المساعدة على التبسم، وإنما ما لهذا الاختلاف من أثر صوتي، يتمثل في أنه لما كانت هذه العضلة تساعد الشفتين على حركتهما الأفقية عند نطق الحركة [i] فلك أن تتصور العلاقة بين وجود هذه العضلة، أو عدم وجودها من ناحية، واختلاف الصيغة النطقية، أو عدم اختلافها، عند نطق هذه الحركة.

كذلك فإن وجود هذه العضلة من شأنه من أن يزيد حجم حجرة الرنين أو أن يغير شكلها على الأقل. وهذا وذاك يؤثران في درجة الوضوح السمعي. ([5])

  • كذلك تشير الدراسات التشريحية التي أجريت على أجناس بشرية مختلفة من الزنوج ومن الملايو ومن اليابانيين، فوجدت فروقا بينها فيما يخص طول اللسان، ليخرجوا بنتيجة مفادها أن اللسان يختلف طوله باختلاف الأجناس البشرية، وباختلاف الأفراد، غير أن اختلاف الأجناس البشرية يبدو عاملا فاعلا في اختلاف طول اللسان. ولاشك أن ذلك الاختلاف ينتج عنه اختلاف في طبيعة الأصوات. ([6])

ولعل تلك الاختلافات من أسباب عدم إتقان اللغات لدى غير الناطقين بها كإتقان أهلها لها، أو ضمن الصعوبات التي تقابل متعلمي اللغة الثانية.

لكن يظل مع هذه الاختلافات تكوين الجهاز  الصوتي في مكوناته الأساسية واحدًا، والتي تسمى (أعضاء النطق)، ومن المهم لمتعلم اللغة معرفة تلك الأعضاء؛ للوقوف على أسس اختلاف الأصوات، مما يساعده بشكل كبير على التمييز بينها وهذه الأعضاء بشكل إجمالي هي: ( الرئتان- القصبة الهوائية- الحجاب الحاجز- الحنجرة- الوتران الصوتيان- لسان المزمار- الحلق- اللهاة- الحنك- اللسان-علم اللغة العام وقضاياه الأسنان- اللثة- الشفتان- التجويف الأنفي.)

وعند تناولنا مخارج الأصوات وصفاتها نقف على معايير التفريق بين الأصوات المنتمية إلى هذه المخارج، وكذلك صفات الأصوات ما بين الجهر والهمس وغيرهما؛ ليمكن بعد ذلك الاعتماد على النظائر الصوتية الموجودة في لغته الأم، ومحاولة المقارنة بين هذه النظائر، لإكسابه أصوات اللغة المتعلمة، مع مراعاة عدم الوقوع في فخ التداخل بين هذه الأصوات وأصوات لغته الأصلية.

وأما الفوائد التي ستعود على المعلم من وراء هذه المعرفة:

فحينما يدرس المعلم هذه القضايا الصوتية جيدا يستطيع أن يقف بطريقة علمية ذات منهجية واضحة على العقبات التي تعترض طريق تعليم اللغة للناطقين بغيرها، ومحاولة إيجاد حلول ناجعة لها، لا تقوم على العشوائية والاجتهاد الشخصي.

ومن ثم يستطيع معلم اللغة العربية للناطقين بغيرها بداية التمكنَ من نطق الأصوات العربية نطقا صحيحا معتمدا على أساس علمي واضح. كما يستطيع تحديد الأخطاء الصوتية التي يقع فيها المتعلمون، وبيان أسباب الوقوع فيها، والبحث عن حلول علمية لها.

وهل يستوى معلم اللغة العربية الدارس علم الإصوات دراسة جيدة تعينه على مهته، والمعلم الذي يعتمد فقط على إجادة النطق دون معرفة كيفيته، وكيف سيكون حاله إذا سأله الدراس عن الفرق بين صوت وصوت من ناحية المخارج والصفات؟

[1])) ينظر: المعجم الوسيط (مادة: ع. ل.م)

[2])) الخصائص (1/33) ابن جني، تح: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، مصورة عن نسخة دار الكتب المصرية 1952م.

[3])) تهذيب اللغة (غ. ر. ض) أبو منصور الأزهري، تح: عبد السلام هارون، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1384ه- 1964م.

[4])) الموافقات (4/198) لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، ضبط نصه وعلق عليه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان- السعودية، ط أولى 1417ه- 1997م.

[5])) ينظر: الأصوات اللغوية رؤية عضوية ونطقية وفيزيائية (20، 21) د.سمير إستيتية، دار وائل للنشر- عمان، ط أولى 2003م.

[6])) ينظر: الأصوات اللغوية رؤية عضوية ونطقية وفيزيائية (35، 36).

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu