الفَاءُ الفَصِيحَةُ (المُبَارَكَةُ) بقلم أ.د/ محمد عبد العال
أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالقاهرة- جامعة الأزهر
بعضُ آياتِ القرآنِ الكريمِ تقرأُها فتشعرُ أن فيها كلامًا محذوفًا، لا يستقيمُ معنى الآيةِ من دُونه.
تأملْ -مثلًا- قول الله (تعالى) في سورة البقرة: “الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة: 274]
أَعِدْ قراءةَ الآية مرة ثانية، وستلاحظ الآتي: أنَّ الآيةَ عمَّمتِ الحديثَ عن كلِّ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، وبيَّنت ثوابَهم وأجرهم، وأكّدتْ أنهم آمنُون مطمئنُون، فلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الآيةُ لمْ تستثنِ أحدًا من الذين يُنفقون، فهي شاملةٌ كلَّ الطوائف من يهودٍ ونصارى ومجوسٍ وصابئةٍ وشيوعيين وملاحدةٍ، وما أكثرَ إنفاقَهم أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، سِرًّا وَعَلَانِيَةً؛ للصدِّ عن سبيل الله، وللحربِ على الإسلام، في الدعارةِ والمخدِّراتِ، والمواقعِ الإباحيةِ، ونشرِ الرذيلةِ والفسادِ، وبيعِ الأسلحةِ الثَّقيلةِ والخفيفةِ، ونوادي الرُّوتاري والليونز، وجماعاتِ الماسونية، وتأجيجِ الطائفيةِ بين المسلمين والنصارى، والسنةِ والشيعةِ، والسلفيةِ والصوفيةِ، وغيرها.
الآيةُ على عمومها يدخل فيها أعداءُ الله، لنيلِ ثوابِ الله، فتشمل كل المنفقين، وتجعل كلَّ من ينفقون أموالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وهُنا تأتي هذه الفاءُ الفصيحةُ (المباركة) لتحلَّ لنا هذا الإشكال، ولتعيدَ للآيةِ المحذوفَ منها؛ حتَّى يستقيمَ معناها، هذه الفاءُ التي تُفصحُ عن شيءٍ مقدرٍ، لا بدَّ من وجودِهِ ليستقيمَ المعنى.
وسُمِّيتْ فصيحةً؛ لأنها أفصحتْ عن المُقدَّر قبلها، وأظهرتْ أن في الكلام شيئًا محذوفًا، فكمالُ حسنِها وفصاحتِها في كونِها مبنيةً على التقدير، مُنْبِئةً عن المحذوف([1]).
قال الشيخُ خالدٌ الأزهريُّ: “وتُسمَّى الفاء العاطفة على مقدَّرٍ فصيحةً”([2])، وقال أبو البقاءِ الكفويُّ: “شَرْطُ الْفَاءِ الفصيحةِ أَن يكونَ الْمَحْذُوفُ سَببًا للمذكُورِ”([3]).
هذه الآية تُشبهُ –في رأيي- الضوءَ الأحمرَ في إشارةِ المرورِ، الذي يحملُ في دلالتِهِ الوقوفَ والتمهُّلَ والتريُّثَ؛ لوجودِ خطرٍ عند تجاوُزِهِ.
هذه الفاءُ المباركة في الآية تُفصِحُ عن بقيةِ الشروط المحذوفة في الآية، وهما شرطا الإيمانِ والصَّلاحِ، ليكونَ التقديرُ: إنْ آمنُوا وعملُوا صالحًا.
أعدْ قراءةَ الآيةِ مرةً ثانيةً بعد ردِّ المحذوف إليها، وستطربُ عند قراءتها: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً –إنْ آمنُوا وعَمِلُوا صَالحًا- فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
ولولا هذه الفاءُ المباركةُ لما استقامَ المعنى، وما فَهِمْنا المُرادَ من الآيةِ.
ويؤكِّدُ هذا الكلامَ: أنَّ في السُّورة نفسِها –سورة البقرة- وبعد الآيةِ المذكورةِ بثلاثِ آياتٍ، يأتي قولُهُ (تعالى): “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة: 277]، ولعلَّك لاحظت أنها وردتْ من دون الفاء “لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ”؛ لأنه لا حاجةَ لوجودِهَا، فالآيةُ مستوفيةُ الشروطِ والأركانِ، ولا حذفَ فيها، فهي تتحدَّثُ عن المُؤْمنِين الصَّالحين، الذين وُفِّقوا للعاملِ الصالحِ مع إقامتِهِمُ الصلاةَ وإيتائِهِمُ الزَّكاةَ، فلا عَجَبَ أن يكونَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
والآن، أَدَعُكَ تستمتعُ –أخي القارئ الكريم- بطائفةٍ من الفاءاتِ الفصيحاتِ المباركاتِ، في بعضِ الآياتِ البيِّناتِ، مع بيانِ المحذوفِ منها:
قوله (عز وجل): “فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ” [البقرة: 184].
والتقديرُ –والله تعالى أعلم-: فأفطَرَ فعليه عدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فالعدةُ من الأيامِ الأخرِ ليستْ مترتبةً على المرضِ أو السفرِ، وإنَّما مترتبةٌ على الإفطارِ.
وقوله) تعالى): “رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” [آل عمران: 191]
وتقديرُهُ -والله أعلم-: “رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ”، بل خلقتَهُ للدّلالةِ على معرفتِكَ، وَمَنْ عَرَفَكَ يجبُ عليه أداءُ طاعتِكِ، واجتنابُ معصيتِكِ؛ ليفوزَ بدخولِ جنّتكِ، ويَتوقَّى به عذابك، ونحنُ قد عرفناكَ، وأدَّيْنا طاعتَكَ، واجتنبْنَا معصيتَكَ، فقِنَا عذابَ النَّارِ.
وقوله) تعالى): “وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ” [الأعراف: 39]
والتقديرُ -والله أعلم-: إنْ شكوتمونا وسألتُم لنا ضِعْفَ العذابِ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ، أنتمْ في النَّارِ لأنَّكم عمِلتُمْ في الدّنيا بالكفرِ كما عمِلْنا، وستخلُدُون في النَّارِ كما خُلِّدْنا، والعياذُ باللهِ.
وقوله (تعالى) مخاطبًا موسى وأخاه هارون (عليهما السلام): “فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا” [الفرقان: 36]
والتقدير: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا، ولا بد من هذا التقدير ليستقيم المعنى؛ إذ التدميرُ سببُهُ التكذيبُ، وليسَ ذَهَابَ الرَّسُوليْن إليهم.
وقوله) تعالى): “فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ” (القصص: 8)
والتقديرُ –وهو سبحانه أعلى وأعلم-: فألقتْهُ في اليمِّ بعد ما جعلتْهُ في التّابوتِ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ.
وقوله (سبحانه وتعالى): “وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ” [الروم: 56].
فالفاءُ في “فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ” أَفْصَحَتْ عن جُمْلةٍ شرطيَّةٍ محذوفةٍ مع الأداةِ، وأفادتْ معنى المُفاجأة، والتقديرُ: إنْ كنتم مُنكرين البعث، فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تُوعدونَ في الدنيا، وهذا توبيخٌ لهم وتهديدٌ، وتعجيلٌ لإساءتهم بما يترقَّبُهُم من العذاب.
فما أَحْكَمَ هذا القرآنَ العظيمَ! وما أَبْدَعَ نظمَهُ وتأليفَهُ!
“وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” [النساء: 82].
============================
([1]) ينظر: عناية القاضي وكفاية الراضي: حاشية لشهاب الدين الخفاجي على تفسير البيضاوي 3/ 228، والكليات للبقاء الكفوي ص: 676.
([2]) ينظر: شرح التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري: 2/ 186.
([3]) ينظر: عناية القاضي وكفاية الراضي: حاشية لشهاب الدين الخفاجي على تفسير البيضاوي 3/ 228، والكليات للبقاء الكفوي ص: 676.