د.عبد الحميد مدكور: المعجم التاريخى يسد ثغرة مهمة
منقول من بوابة أخبار اليوم
ظل مشروع المعجم التاريخى للغة العربية يراوح مكانه عشراتٍ من السنين، يترقَّب ظروفًا مواتية تنقله من كونه حلمًا وأملاً إلى حيز التنفيذ الذى كان يبدو بعيد المنال.
وقد سنحت الفرصة عندما اتجهت همة الشيخ الدكتور سلطان القاسمى حاكم الشارقة، إلى تحويل هذا الحلم العزيز إلى حقيقة، وكان على العلماء أن يعكفوا على وضع منهج علمى يتسق مع هذه الغاية النبيلة فى الحفاظ على اللغة، شعرًا ونثرًا، وأدبًا وعلمًا بحيث يشمل العربية فى أقطارها وأكنافها، وفى عصور حضارتها الممتدة إلى أكثر من سبعة عشر قرنًا تبدأ مما قبل الإسلام وتمتد إلى هذا العصر، وتستخلص من النقوش، ودواوين الشعر، وكتابات العلماء فى سائر فروع الثقافة العربية كالنحو واللغة والأدب، والفقه والأصول، والحديث والتفسير والفلسفة والطب والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم، ثم تمتد إلى ما صحب حركة الترجمة الكبرى التى وقعت فى القرون الأولى للإسلام، وبخاصة فى عهد الخلافة العباسية التى نقلت فيها إلى اللغة العربية علوم الهند،
والفُرْس، واليونان، والسريان، وغيرهم من الأمم، ثم تمتد كذلك إلى العصور التى تلت ذلك حتى العصر الحديث بما ظهر فيه من منجزات شهدت أنماطًا جديدة من الشعر والمسرحيات والروايات والفنون ونحوها، ولم يَعُدْ جمع اللغة إذن مقصورًا على فترة زمنية محدودة ولا على بيئة مكانية محددة، بل إنه امتدَّ إلى سائر المجالات زمانًا ومكانًا.
وقد قام المدير العلمى للمشروع بصُحْبة أمين مجمع الشارقة د. محمد المستغانمى وفريق من الفنيين المتخصصين فى التقنية بجولات فى المجامع العربية لتدريب باحثيها وخبرائها فى المجامع التى شاركت فى هذا المشروع، وهى ثمانية: مجمع القاهرة، ومجمع الشارقة، ومجمع موريتانيا، والسودان، والأردن، والمجلس الأعلى للغة العربية فى الجزائر، ولجان علمية من تونس والمغرب، ثم شارك المجمع السورى فى مراجعة بعض الإنجازات العلمية للمشروع وتدقيقها.
وكان هذا العمل نفسه إنجازا كبيرًا يثبت قدرة العلماء العرب على العمل الجماعى المشترك، وينفى عنهم تهمة العجز عن التوافق، وقد برهنوا بطريقة عملية على انتمائهم إلى اللغة العربية التى هى لغتهم جميعًا وأنها عنوان هويتهم، وأنهم جميعًا متى أتيحت الفرصة وتهيأت الظروف لخدمتها والقيام بحقها عليهم، فريق واحد يعمل بروح واحدة، وتجانس وتكامل حميد.
وهكذا بدأ العمل الذى اشتركت فيه هذه الكتائب العلمية فى أوائل يناير 2020 وأثمر العمل إنجاز ثمانية مجلدات كل مجلد يقع فى 720 صفحة تشمل حرف الهمزة والباء وشيئًا قليلاً من التاء، أعِدَّت وروجعت فى نحو ثمانية أشهر. وقد اقتضت الحكمة القائمة على التجربة أن تخرج هذه المجلدات فى طبقة تجريبية تعرض على المجلس العلمى للاتحاد للنظر فيها، واستدراك ما يمكن أن يكون قد شابها من قصور أو أخطاء فى الطباعة، وعما يمكن أن يضاف إلى قواعد المنهج العلمى من إضافات تزيده دقة وإحكامًا.
وانعقد العزم على متابعة الإنجاز، مع تحقيق الدقة بأقصى قدْر من الاستطاعة على أن يكون الموعد فى نوفمبر 2021م. وقد حرص العاملون فى المعجم من الباحثين والخبراء وأعضاء المجامع على ألا يخلفوا عهدهم، وعندما جاء نوفمبر من عام 2021 كانوا قد راجعوا المجلدات التى سبق إصدارها فى طبعة تجريبية، وأن يضيفوا إليها تسعة مجلدات أخرى ليبلغ المجموع سبعة عشر مجلدًا تضمنت خمسة أحرف فقط من حروف اللغة العربية، وهى الألف والباء و التاء والثاء والجيم وكان هذا إنجازا هائلاً لم تشهد له اللغة العربية مثيلاً من قبل على امتداد تاريخها الطويل.
وقد تحقق لهذا المعجم عدد من الميزات نشير إلى بعضها بإجمال فيما يأتي:
أن المعاجم القديمة انحصرت فى مدة زمنية محدودة، وفى بيئة مكانية محدودة أيضًا، لكن هذا المعجم يشمل موادَّ علمية مستقاة من مصادر أساسية ممثلة للغة العربية فى تاريخها الطويل، بما ظهر فيها فى العصر الحديث من صور وأنماط أدبية حديثة، وما أضيف إلى اللغة من ترجمات، ودراسات لغوية ومعاجم لغوية حديثة تنتجها مجامع اللغة العربية فى سائر العلوم الأدبية والعلمية كالرياضيات والعلوم الأساسية، ونحوها.
أن المعاجم القديمة انحصرت فى جمع مادتها المعجمية على اللغة والشعر والأدب مع مقتبسات من القرآن والحديث لكن هذا المعجم يمتد إلى اقتباس مادته من سائر العلوم العربية والإسلامية وما ترجمه، المترجمون من تراث الأمم الأخرى كالفلسفة والطب والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم والفنون.
أن هذا المعجم قد حرص – بحسب منهجه – على دراسة عميقة شاملة للكلمات العربية على اختلاف مجالاتها من أول ظهور لها على لسان شاعر أو أديب أو متحدث ثم رصد ومتابعة كل تطور يطرأ عليها من وقت ظهورها إلى الآن، سواء بالانتقال من الحقيقة إلى المجاز أو بظهور معنى أو معان جديدة، ثم هل استمر ظهورها أو أنها اختفت، وهل عادت إلى الظهور مرة أخرى، مع التمثيل لكل ما يقع لها من تطور بالشواهد الشعرية أو من النثر
وهذا ما يفتح الباب واسعًا للتغيير والتأويل،وللظهور والكمون، واتساع الدلالة أو ضيقها إلى ما يكن أن يمتد إليه التفسير من جوانب نفسية أو اجتماعية أو سياسية تسهم فى الاستعمال اللغوى لكلمات اللغة، وهذا ما لا نجده على هذا النحو من الشمول والتتبع والشواهد فى المعاجم القديمة التى انحصرت فى حدود محدودة من الزمان والمكان ومستويات الفصاحة. مع ملاحظة أن هذا المعجم لا يلجأ إلى المعاجم القديمة إلا أقل القليل.
ولعل ما سبقت الإشارة إليه من أن الحروف الخمسة الأولى قد جاءت فى سبعة عشر مجلدًا يوضح أن المادة اللغوية الممثلة للغة العربية فى عصورها كلها ستكون ضخمة على نحو غير مسبوق، وأنَّ إتاحتها بهذه الضخامة ستفتح الباب لدراسات لغوية حديثة تتسم بالشمول والتنوع والجدَّة، وهى تتيح الفرصة لاكتشاف ظواهر لغوية لم يكن للباحثين عهد بها، وتفتح الباب لدراسات معَّمقة ونتائج جديدة تكشف عن علاقة أعمق للغة بالحياة، وتؤدى إلى فهم أعمق لها.
الأمين العام لاتحاد المجامع اللغوية العربية
الأمين العام لمجمع القاهرة
رابط المقال: