الحلقة الثامنة: نظريات تحليل المعنى وتوظيفها في تعليم العربية (السياق و الحقول الدلالية أنموذجا)
أ.د/ عصام فاروق
وضع العلماء بعض النظريات الدلالية التي من خلالها يمكن الوصول إلى المعنى الذي يقصده المتكلم من وراء الكلمة؛ بما أنها الوحدة الدلالية الأصغر، التي تقوم عليها الجمل والنصوص.
فرأى بعض اللغويين أننا لا نستطيع أن نقف على المعنى المراد بدقة إلا من خلال (تسييق الكلمة)، ويعني: وضع الكلمة في سياق معين، يتضح من خلاله معناها. ويكون ذلك معينا على إزالة اللبس عن المعاني، خصوصًا إذا كانت الكلمة تحتمل أكثر من معنى، في مثل كلمة (العين) التي قد يكون المراد بها عين الإنسان، أو عين الماء، أو الجاسوس، أو الشمس، أو غيرها من المعاني الموضوعة بإزاء تلك الكلمة. فإذا تم وضعها داخل سياق معين فإن ذلك يزيل اللبس عن المعنى ويوضحه. وتعرف النظرية الموضوعة لهذا الغرض بـ(نظرية السياق).
في حين رأى لغويون آخرون أن إزالة اللبس عن المعنى وتوضيحه بدقة يقوم على ما يمكن أن أسميه (تحقيل الكلمة) على غرار ما عرف عنهم من (تسييق الكلمة)، وأعني بتحقيل الكلمة: أن توضع ضمن حقل دلالي يجمع بينها وبين الكلمات القريبة منها في المعنى. فعلى سبيل المثال لن يتضح معنى كلمة (أحوى) إلا من خلال وضعها بين لوني الأخضر والأسود، كدرجة لونية جامعة بينهما. وتعرف النظرية التي تعالج المعنى من هذه الزاوية بـ (نظرية الحقول الدلالية).
وسأتناول جانبًا من هاتين النظريتين، من حيث أهم مبادئهما، وكيفية توظيف كل منهما في خدمة تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، بعيدًا عن التأصيل التراثي لهما في العربية أو غيره من الجوانب التي لا تعنينا في هذا المقام.
أوَّلًا- نظرية السياق، وتوظيفها في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها:
تُعنى هذه النظرية في دراسة المعنى على ما يحيط الكلمة من سياق سواءً أكان داخل النص أم خارجه، وتوظف هذه النظرية في جانبين مهمين:
أحدهما يتعلق بتوضيح المعنى، وذلك إذا كان المعنى غامضا على الدارس، ومن هنا فهو يحتاج إلى إيضاح، ولعلنا نقابل هذا التوظيف ونخلد إليه كثيرا في المستويات الأولى في دراسة اللغة، حيث تغيب الكثير من المفاهيم والمعاني عن الدارسين، مما يُحتاج فيه إلى الاعتماد على تسييق الكلمات التي يسألون عن معانيها.
بينما يتعلق ثانيهما بتحديد المعنى، وذلك إذا كان المعانى الذي تحتملها الكلمة متعددة، ومن هنا فهو يحتاج إلى تحديدٍ، وكثيرًا ما يعتمد على هذه الوظيفة في المستويات المتقدمة، حيث اكتسب الدارس العديد من المعاني التي تحتملها الكلمة، والتي لا يستطيع تحديد المراد منها، فينهض السياق أو التسييق بهذه المهمة.
فعلى سبيل المثال في قوله تعالى في سورة الدخان: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)﴾
إن آية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) في ظاهرها توحي بالتكريم للمتذوق، في حين أننا لو نظرنا إلى السياق السابق للآية يتضح لنا أن الحديث عن الأثيم ويتضح كذلك من السياق اللاحق للآية من حيث الانتهاء في هذه الآيات من الحديث عن الآثمين، والبدء في الحديث عن الصنف الآخر من المكرمين تكريما حقيقيا، وذلك في قوله تعالى بعد هذه الآيات: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)﴾
وقد قسم أصحاب هذه النظرية السياق إلى أنواع متعددة، لعل أهمها ما يلي:
- السياق الداخلي (اللغوي):
وهو يتمثل في المحيط اللغوي للكلمة، من حيث الاعتماد على الروابط بينها وبين الكلمات والجمل السابقة أو اللاحقة لتلك الكلمة، والاعتماد على القرائن اللفظية الموجودة في النص نفسه التي تعين على فهمهما فهمًا دقيقًا، أو تحديدهاعند تعددها، فعلى سبيل المثال تتعدد معاني كلمة (يد) بتعدد السياقات الواردة فيها، ومنها:([1])
- أعطيته مالًا عن ظهر (يد) يعني: تفضلًا ليس من بيع ولا قرض ولا مكافأة.
- هم (يد) على من سواهم: إذا كان أمرهم واحدًا.
- (يد) الفأس ونحوه: مقبضها.
- (يد) الدهر: مد زمانه.
- (يد) الريح: سلطانها.
- (يد) الطائر: جناحه.
- خلع (يده) من الطاعة: مثل نزع يده.
- بايعته (يدًا) بيدٍ: أي نقدًا.
- فلان طويل (اليد): إذا كان كريمًا.
- حتى يعطوا الجزية عن (يدٍ): عن ذل واعتراف للمسلمين بعلو أيديهم.
فما كنا سنستطيع تحديد معنى هذه الكلمة في كلٍّ مما سبق، إلا من خلال وجودها داخل الجملة وربطها بغيرها من الكلمات داخل هذه الجمل.
ففي الجملة الأولى على سبيل المثال نجد قرائن تعين على معنى التفضل في العطاء من خلال كلمتيْ:(أعطيته- مالًا).
وفي الجملة الثانية تعين عبارة: (من سواهم)، على فهم معنى الكلمة وأنها تعني الاتحاد.. وهكذا في الجمل الباقية.
ويُعين بعض المعاجم على مثل هذه الأمور، خصوصا عند تسييقه كثيرًا من الكلمات المراد شرحُها، ومن أفضل المعاجم التي قدمت ذلك معجم اللغة العربية المعاصرة للدكتور أحمد مختار عمر، فنجده على سبيل المثال في مادة (ح. ش. د) يذكر:
احتشد الناس: تجمعوا لأمر واحد..
احتشد لنا بالضيافة: اجتهد وبذل وسعه.
احتشد للأمر: استعد له.
وكذلك قد يتعدى الفعل بحرف يغير المعنى تماما، ويعد هذا الرابط بين الفعل وحرفي الجر قرينة لفظية مهمة يعتمد عليها في بيان هذا الفعل، ولتأخذ مثالا على ذلك بقولنا: هاجر، في مثالي: (هاجر إليه)، و(هاجر عنه). فالمعنى في المثال الأول يدل على الإقبال، بينما يدل على في الثاني على الإعراض، وما غير ذلك السياق اللفظي من خلال ارتباطه بحرف الجر في كلٍّ منهما.
وكذلك يجب تعويد الدارس على تسييق المشار إليه لانسجامه مع اسم الإشارة، لأن كثيرا ممن يتعلمون العربية لا يحسنون الربط ما بين اسم الإشارة والمشار إليه، من حيث التذكير والتأنيث. فيقولون على سبيل المثال: هذه المعلم، هذا الكلية.. إلخ
ومثل ذلك يقال في الضمير ومدى مطابقته لما قبله.
- السياق الخارجي (غير اللغوي):
قد لا يتضح معنى الكلمة أو تحديده من خلال روابطها بغيرها من الكلمات داخل الجملة أو النص، مما يُحتاج فيه إلى العودة إلى السياق الخارجي لها، وذلك شبيه بأسباب النزول بالنسبة لآيات القرآن الكريم، فقد لا يتضح معنى الآية إلا من خلال سبب النزول الذي قد يتناول مكان نزولها أو زمانها أو المخاطب بها، أو المتحدث بها، أو غيرها من الظروف المحيطة بالآية. وذلك مثل قوله وقد أشكل على مروان بن الحكم قوله تعالى ﴿ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ آل عمران [188]
وقال: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أُتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذبنَّ جميعا، فبيَّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأَرَوْه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه [روى القصة مسلم برقم 4982]
وفي مجال تعليم الناطقين بغير العربية نخلد إلى مثل هذا السياق من حيث توضيح الظروف الاجتماعية أو الدينية أو الثقافية المحيطة بالكلمة والتي قد لا تتضح للدارس من خلال الكلمات نفسها.
ولك أن تشرح مثالا من الأمثلة وليكن (رجع بخفي حنين) إن بيان معنى الكلمات الواردة في المثال لن تسعفك في بيان المعنى الكلي للمثال، ولن تستطيع أن توصل معناه للدارس أنه يعني خيبة الأمل، إلا من خلال بيان أصل قصة هذا المثال أو ما يسميه العلماء (مورد المثل) أو الموقف الأول الذي قيل فيه. ([2]) أو غيرها من الأمثال التي يعج بها كتاب (مجمع الأمثال) للميداني على سبيل المثال.
ولك أن تشرح للدارس أكلة من الأكلات التي تمتاز بها بعض الشعوب، كالملوخية بالنسبة للمصريين، فلن يكفي أن توضح للدارس أنها أكلة من الأكلات المصرية، دون أن تشرح له مكوناتها، وكيفية إعدادها، مع الثناء على طعمها وغيره من الأمور غير اللغوية.
والصورة لن تفيد في مثل هذا الشرح، ولا بيان النظير في لغته من حيث عدم وجود النظير على سبيل المثال.
ويأتي دور معلم اللغة في تدريب الدارس على تسييق الحروف والكلمات والجمل، فالأولى تتمثل في وضع صورة وضع الكلمة إلا من حرف معين يحذف ويوضع مكان هذا المحذوف نقاط، وإعطاء خيارات متعددة لهذا الصوت، من مثل أن تضع صورة لجمل وتكتب المثال:
- جـ .. ـــل [ م – ل- ب ]
فالدارس هنا مطالب بأن يضع الحرف الصحيح في سياقه الصحيح من الكلمة.
وأما تسييق الكلمات فمن مثل وضع نقاط مكان الكلمة المحذوفة من الجملة وإعطاء اختيارات، أو إسماعه نصا، والطلب منه أن يكمل هذه الكلمة الناقصة من ذاكرته، من مثل:
………. محمد العِشَاء [ يصوم- يصلي- يحج]
أو مثل:
قال تعالى: ﴿ قل هو الله……..﴾
أو تعطيه كلمة وتطلب منها أن يضعها في جملة.. إلخ
وتسييق الجمل أراه متحققا في التدريبات التي يطلب فيها من الدارس ترتيب العبارات بحسب ورودها في النص.
أو غيرها الكثير من الأنشطة التي تعين الدارس على تسييق الوحدات الكلامية المتعددة حرفا كان أو كلمة أو عبارة.
إن كثيرا من الأخطاء التي يقع فيها الناطقون بغير العربية عند تعلم العربية يكون السبب فيها عدم مراعاة السياق التي ترد فيه، وهذه طائفة من الأخطاء بحسب دراسة أجريت على عينة منهم: ([3])
(هذا الجامعة الأزهر) وفيه تذكير اسم الإشارة مع المشار إليه المؤنث.
(لهذه السبب نزل القرآن الكريم) وفيه تأنيث اسم الإشارة مع المشار إليه المذكر.
(أذهب في المسجد) وفيه استعمال حرف جر غير مناسب.
(أنا يسكن في عمارة) وفيه عدم مناسبة حرف المضارعة لضمير المتكلم.
ثانيا– الحقول الدلالية وتوظيفها في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها
ذكر بعض علماء الدلالة أنَّ من أفضل الطرق إلى الوصول إلى المعنى الاعتمادَ على ما سموه الحقل الدلالي، وهو يعني: (( مجموعة من الكلمات ترتبط دلالاتها، وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها.)) ([4])
ففي تصورهم أن الكلمات ليست عبارة عن جزر منفصلة يمكن الوصول إلى معناها من خلال ذاتها، وإنما تسبح الكلمة في فضاء واسع ترتبط فيه مع غيرها من الكلمات بعلاقات وطيدة، يمكن من خلال فهم تلك العلاقات الفهم الأمثل لمعنى الكلمة وموقعيتها داخل النسيج اللغوي، أو بمعنى آخر (( لكي تفهم معنى كلمة يجب أن تفهم كذلك مجموعة الكلمات المتصلة بها دلاليا.)) ([5])
وارتباط الكلمات ببعضها البعض من خلال المعاني يأخذ أشكالا عديدة، فقد تكون تلك العلاقة عبارة عن العموم والخصوص، بمعنى أن تكون هناك كلمة أو عبارة عامة تعتبر أصلا لكل الكلمات التي تندرج تحت لوائها في عبارة عن مجموعة أو مجموعات، ومثال ذلك:
المركبات فهي كلمة عامة تعتبر أصلا يضم تحته العديد من المجموعات والألفاظ، فتحتها: وسائل النقل (ويندرج تحتها وسائل النقل الكبيرة كالشاحنات، ووسائل النقل الصغيرة) وسائل المواصلات، وتنقسم هذه بدورها إلى: وسائل المواصلات العامة (وتضم القطارات والمترو والحافلات)، ووسائل المواصلات الخاصة (وتضم السيارات بأنواعها المتعددة).
ويمكن إن يقال ذلك في نظام الأسرة، والألوان، والنباتات، والأجهزة الكهربية، والمطبوعات وغيرها من مجالات الحياة المختلفة.
وقد تكون العلاقة بين الكلمات هي عبارة عن الاشتقاق، فبالإضافة إلى الجانب اللفظي الذي يربط كلمات ( كتب- يكتب- مكتوب- كاتب، كِتاب، كُتّاب، مكتب، مُكاتِب، مُكاتَب، مكاتبة.. إلخ) من حيث احتوائها جميعا على حروف الجذر ( ك. ت . ب ) فهناك علاقة دلالية تجمع بين تلك الكلمات، حيث إن بينها رابطا دلاليا أشار إليه الإمام ابن فارس بقوله: (( الكاف والتاء والباء أصل واحد يدل على جمع شيء إلى شيء)) ([6])
وقد تكون العلاقة هي الترادف بين الكلمات في المعنى العام، فكلمة (الكره، والبغض، والشنآن) كلها تدل على معنى عام يدل على عدم قبول الشيء، لكنها تختلف في ترادفاتها تلك، أو بمعنى آخر هي درجات في الدلالة على ذلك المعنى، فالكره أقلها، يليه البغض في الدلالة على عدم القبول إلى أن نصل إلى الشنآن، وهو أشد البغض، ولذا ورد في القرآن الكريم دالا على المعنى المراد بدقة متناهية، وذلك في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة 8] أي أن المؤمنين مطالبون بالعدل والإنصاف حتى وإن كان ذلك في حق من ليسوا يكرهونهم أو يبغضونهم فحسب، وإنما حتى إن وصل الأمر إلى مرحلة الشنآن، فمع وصولهم إلى تلك المرحلة من البغض، إلا أن ذلك مانع من العدل في حقهم.
وقد تكون العلاقة هي التضاد بين الكلمات، وقد ذكر اللغويون للتضاد أنواعا عديدة، منها:([7])
- التضاد الحاد (غير المتدرج)، كالتضاد بين: ( الميت والحي) و(الذكر والأنثى)، و(الليل والنهار) فنفي أحد هذين العنصرين يمثل اعترافا تلقائيا بالآخر، ولذا لا يمكن وصف هذه الكلمات بـ (جدا، أو قليلا أو كثيرا)، وهذا هو السبب في عدم استطاعتنا صياغة التفضيل من بعض الكلمات صياغة مباشرة، ففي حين نقول: عليّ أفضل من فلان، لا نستطيع القول: (عليّ أموت من غيره) ولا (أعزب من غيره) لحدة المعنى في هذه الكلمات وعدم وجود مساحة للتدرج والتفضيل.
- التضاد المتدرج، ومن ذلك التضاد بين (الأبيض والأسود، وحار وبارد)، فنفي أحد هذين العنصرين لا يمثل اعترافا تلقائيا بالآخر، لأنه بينهما درجات يمكن انصراف الذهن إليها، فليس معنى قولى إن القلم ليس أبيضَ دلالةٌ على أنه أسود فقد يكون رماديا أو غيره من الدرجات اللونية. وكذلك قولنا الجو ليس حارًا، فلا ينصرف الذهن مباشرة إلى البارد، لأنه هناك درجات أخرى بينهما أو قريب منما، كالدافئ، والمعتدل، والمائل للبرودة، والقارس، والمتجمد.
إن النظرية بهذه الطريقة تحاول النظر الأوسع للكلمة من خلال اللغة بوجه عام، واعتبار التحقيل يختاره كل واحد بحسب الهدف الذي يرنو إليه، فإن كان ففي حين يُعتمد في مراحل التعليم الأولى سواء أكان للناطقين بالعربية أو غيرها، على الصور وتشبهاتها، كالتوصيل بين صورتين متماثلتين، أو حرفين متماثلين، أو كلمة وصورة، أو صوت وكلمة، أو غيرها من أشكال الربط مما قد يندرج تحت ما نحن بصدده.
فإنه المعلم من المستويات المتقدمة من تعلم اللغة لابد أن يضع تلك العلاقات في حسابه وقت أن يبني الدرس وكذلك وقت تدريسه، فيضيف على سبيل المثال إلى الكلمة مرادفات أخرى لعل الدراس يصادف تلك الكلمات المترادفة في قراءاته بأكثر مما يصادف الكلمة الواردة في الدرس.
أو يضيف إلى الكلمة الواردة غيرها مما يشتمل عليها الحقل الواحد، خصوصا إذا كانت تلك الكلمات محصورة في نطاق معين، ومن ذلك على سبيل المثال الاتجاهات فإن وردت كلمة شمال، فمن الأفضل في توضيحها ذكر الاتجاهات الأخرى: الجنوب، والشرق، والغرب، ليكتمل تصور تلك الاتجاهات الرئيسة وليُعرف الفرق بينها، من خلال نظام الرسم أو غيره من الأشكال التوضيحية التي ترسخ في ذهن الدارس.
بالإضافة إلى مراعاة المُعلم لنظام الحقول مراعاة شديدة في التدريبات والتطبيقات المتعددة التي تقيس له درجة ربط الدارس بين الكلمات المندرجة تحت حقل دلالي واحد، وإدراكه للعلاقات بينها.
وهو ما يظهر بشكل كبير في شجرة المفاهيم التي يعطى الدارس فيها كلمة مفتاحية أو مهمة، ويطلب منه أمورا متعددة توضع مكانها النقاط، ويطالب أن يكمل تلك الشجرة، من خلال ربطه حقليا بينها وبين الكلمات الأخرى التي يعرفها، ومن هنا يقف المعلم على مدى إدراك الدارس تلك العلاقات أو عدم إدراكه إياها، مما يدعو إلى العمل على اكتسابها، وتزويده بها.
=======================
([2])ومورد المثل يتعلق برجل اسمه حُنين كان يعمل مصلحًا وصانعًا للأحذية في مدينة الحيرة بالعراق، وكان مشهورًا بصناعته وإتقانه وخبرته بها، وفي يوم من الأيام مر أمام دكانه أعرابي يركب على بعير، فأناخ بعيره جوار الدكان ودخل إلى حُنينٍ يسأله وينظر للأحذية التي يصنعها ويدقق فيها، وقد أعجبه أحد هذه الأحذية فسأل عن السعر وبدأ بالجدال والمساومة حول السعر كأنه يريد أن يشتريه.
وبعد طول جدال أخذ الكثير من وقت حُنين اتفق معه على سعر وإذا بالأعرابي يترك الدكان ولم يأخذ الحذاء ولم يشتره ولم يُعِر حُنين أي اهتمام، فسبب هذا التصرف لحُنين الغضب لأن هذا الأعرابي أخذ منه الكثير من الوقت وعطّله عن عمله وعن زبائنه الذي رأوه منشغلًا به عنهم فانصرفوا عنه، فخسر زبائن اليوم ولم يبع حُنين شيئا؛ لذلك أراد أن ينتقم من تصرف الأعرابي وأن يفرّغ غضبه بطريقة انتقاميّة، فراح يلحق به وسلك طريقًا جانبيًا أسرع من الطريق الذي سلكه الأعرابي فأصبح أمامه بمسافةٍ، وأخذ الخُفين ووضع أحدهما على الطريق، وعلى بعد مسافة كافية منه وضع الحذاء الثاني واختبأ في مكانٍ يراقب منه الأعرابي عندما يصل لهذه المنطقة.
وعندما وصل الأعرابي ووجد الحذاء، قال ما أشبهه بخفي حُنين، لكن هذا حذاء واحد فلو كان الثاني معه لأخذته، فتركه وسار في طريقه، وبعد مسافةٍ وجد الحذاء الثاني، وقال كأنه هذا وذاك خفي حُنين، فأخذ الثانية ورجع للأولى كي يلتقطها، وترك دابته مكان الحذاء الثاني.
وهنا كان حُنين يتربّص به فلما ترك دابته ورجع للحذاء الأول، أخذ حنين دابته وهرب بها، وعندما عاد الأعرابي لمكان الدابة لم يجدها وعاد إلى أهله فارغ اليدين وقد كان عائدًا من السفر محملًا بالأغراض والهدايا، فاستغرب أهل الحي عودته راجلا, ولما علموا بما حل به, قال أحدهم: عاد بخفي حنين, فذهب قوله مثلا
([3]) تحليل الأخطاء في تعليم اللغات الأجنبية (259) وما بعدها.