تغريب المصطلحات النقدية والبلاغية مشكلات التواصل ووأد الانتماء [الحلقة الأولى].. بقلم أ.د/ إبراهيم الهدهد
أستاذ البلاغة والنقد ورئيس جامعة الأزهر السابق.
تمهيد
التغريب الذي نقصد إليه بالبحث : هو جعل المصطلحات غربية الشكل، والدلالة، وهو ماض على وجوه :
الوجه الأول: نقل المصطلحات النقدية والبلاغية من الأعجمية إلى العربية، وكتابتها بالأبجدية العربية بدل الأبجدية اللاتينية مثل 🙁 السيميوطيقا ـ البويطيقا).
الوجه الثاني: استبدال مصطلح وارد من الغرب بمصطلح عربي قارّ في تراثنا منذ قرون كإطلاق مصطلح الاستبدال بدل الاستعارة.
الوجه الثالث : صياغة المصطلح بطريقة عجيبة بجزء أعجمي بأبجدية عربية،وآخر عربي، مثل (ميتا نقد ـ استعارة أنطولوجية)
وقد كثرت المصطلحات من كل هذه الألوان كثرة أدت إلى عجمة النقد العربي، واستبهام كثير من مفاهيمه على جمهرة المتخصصين في علوم العربية وآدابها،كما شكلت هذه الكثرة قطيعة مع التراث العربي الغني بالعطاء، لمن قام له بحقه من البحث والدرس،بيد أن استقبال قبلة غير قبلة التراث أضحى آية التقدم، والرقي الفكري،وغدا كل ضيم على التراث انتصارا للجديد، وكأنه لاسبيل إلى الانتصار للجديد والتجديد إلا بوأد ذلك التراث، وقطع رحمه،ولاحول ولاقوة إلا بالله!!
مفهوم المصطلح والاصطلاح
المصطلح لغة: تدور المادة اللغوية على أن الصلاح نقيض الفساد،وخلافه، واصطلح:اتفق،واصطلح القوم:زال ما بينهم من خلاف، واصطلحوا على الأمر:تعارفوا عليه،واتفقوا،والاصطلاح:مصدر اصطلح، والاصطلاح:اتفاق طائفة على شئ مخصوص، ولكل علم اصطلاحاته، وقد جعل ابن جني بابا خاصا عنوانه: باب القول على أصل اللغات إلهام هي أم اصطلاح؟([1])
واصطلاحا : تعددت تعريفات المصطلح،والاصطلاح، ويمكن إيجازها فيما يأتي:
1ـ الاصطلاح: اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص.([2])
2ـ الاصطلاح: اتفاق القوم على وضع الشئ، وقيل: إخراج الشئ عن المعنى اللغوي إلى معنى لغوي آخر لبيان المراد.([3])
3ـ الاصطلاح : اتفاق قوم على تسمية شئ باسم ما ينقل عن موضعه الأول،وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما،وقيل:الاصطلاح: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى،وقيل :الاصطلاح: إخراج الشئ على معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد، وقيل:الاصطلاح: لفظ معين بين قوم معينين.([4])
هذا عن تعريف الاصطلاح، أما تعريف المصطلح فإنه يمكن تعريفه بأنه: الكلمة،أو الكلمات التي يتفق أهل الاختصاص على ضرورتها لأداء مدلول معين في بنية النسق المعرفي المميز لعلم من العلوم، أو ثقافة من الثقافات.([5])
أهمية المصطلح في التواصل بين البيئات العلمية
ما من ريب في أن استقرار المصطلح العلمي في أي علم من العلوم أمر بالغ الأهمية، فمصطلحات كل علم نجوم هادية لأهل الاختصاص عليها يلتقون، وبها يهتدون،ومنها ينطلقون،وبسببها يتواصلون، ولخطر المصطلح اضطلعت المجامع اللغوية العربية،وجمعية لسان العرب بهذه المهمة الجليلة، وترجمت المجامع ألوف المصطلحات والتعبيرات العلمية في مختلف فروع المعرفة”وقد ذهب فريق من المشتغلين بهذه المسألة إلى أنه لابد من إيجاد جذور عربية للكلمات والمصطلحات المراد ترجمتها، والتعبير عنها،وأنه لاينبغي أن تدنس العربية بعجمة أو لكنة”([6]) وهذا الذي يطمح إليه كثير من المنتصرين للعربية، العارفين باقتدارها على مواكبة العصر ـ شأنها في مسيرتها التاريخية ـ يعكر صفوه “أوجه خلاف بين الدول العربية، والمثقفين العرب بشأن هذه المصطلحات،فالعراق والأردن لونتهم الثقافة الإنجليزية حينا فتأثروا بها،وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ثقافتها فرنسية، فتأثرت مصطلحاتهم العلمية بالأصول الفرنسية”([7])
ويحسن في هذا الموضع استعارة ماذكره د/ عبد السلام المسدي في بيان أهمية المصطلحات في التواصل حيث يقول:” إنه من المعلوم بالضرورة أن مفاتيح العلوم مصطلحاتها، ومصطلحات العلوم ثمارها القصوى، فهي مجمع حقائقها المعرفية،وعنوان ما به يتميز كل واحد منها عما سواه، وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية …فإذا استبان خطر المصطلح في كل فن توضح أن السجل الاصطلاحي هو الكشف المفهومي الذي يقيم للعلم سوره الجامع، وحضنه المانع فهو له كالسياج العقلي الذي يرسي حرماته، رادعا إياه أن يلابس غيره،وحاظرا على غيره أن يلتبس به… فيكون للمصطلح الفني في أي شعبة من شعاب شجرة المعرفة الإنسانية سلطة ذهنية …وإذا اعتبرنا الجهاز المصطلحي لكل علم صورة مطابقة لبنية قياساته متى فسد فسدت صورته، واختلت بنيته، فيتداعى مضمونه بارتكاس مقولاته، مما سلف يتجلى أن الوزن المعرفي في كل علم رهين مصطلحاته” ([8])نعم إن “المصطلح هو اللبنة الأولى للصرح العلمي، وهو النواة والبذرة للمنهج … إن العلم منهج قبل أن يكون نتاجا أو مضمونا”([9]) هذا، وقد عني أسلافنا لقرون طوال في مختلف العلوم حتى استقرت المصطلحات، بما في ذلك المصطلحات النقدية والمصطلحات البلاغية، وقد استغرق هذا التحرير والتدقيق قرونا، وربما مر المصطلح الواحد بقرون حتى استقر وثبت، ويظهر ذلك بالإبحار بمصطلح واحد في البلاغة أو النقد في تراث الأسلاف، لمتابعة أطواره، ثم من بعد ذلك نطّرح ما أفنوا أعمارهم لأجله؛صونا للعربية، وذودا عن حماها لمصطلحات لم يكن لها ثبات واستقرار في بيئاتها.
ولأهمية المصطلح نظر القدماء إلى المصطلحات على أنها مفاتيح العلوم،وترى في تراثنا الثري بالعطاء كتاب مفاتيح العلوم لمحمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي المتوفي قبل ألف عام تقريبا (ت387هـ) يجمع في هذا الكتاب المصطلحات الأساسية للعلوم الإسلامية والعربية، وعلوم المنطق، وعلوم التجريب المنقولة عن اليونان، ويفسر معانيها بلغة دقيقة كاشفة عن الوعي باللغة المنقول منها، واللغة المنقول إليها (الفقه،والكلام، والنحو، والكتابة والشعر والعروض والأخبار والفلسفة والمنطق والطب والأرثماطيقي (الحساب) والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والحيل والكيمياء) وهذا وغيره مما يبين سيرة الأسلاف في الانتفاع بثقافة الآخرين وإحسان نقلها إلى العربية بلغة مبينة، والبناء عليها، والإضافة إليها دون تعال، ولاعجمة، ولاغموض، لأنهم أحسنوا النية وأخلصوا العمل، فحسُن الإنتاج، ونما النفع.
========================
([1]) ينظر: مادة (ص ل ح ) في مقاييس اللغة، القاموس المحيط، لسان العرب، المعجم الوسيط. وينظر: الخصائص لابن جني 1/41، بتحقيق الشيخ علي النجار،ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م، والأسس اللغوية لعلم المصطلح د/ محمود فهمي حجازي 8 ، ط. دار غريب القاهرة.
([2]) ينظر: تاج العروس للزبيدي، والمعجم الوسيط، مادة(ص ل ح)
([3]) ينظر : الكليات لأبي البقاء الكفوي 129 بتحقيق د/ عدنان درويش،ومحمد المصري،ط،مؤسسة الرسالة،بيروت 1993م.
([4]) التعريفات للشريف الجرجاني 44 بتحقيق إبراهيم الإبياري،ط،دار الريان للتراث، دون تاريخ، وينظر : مصطلحات علم القراءات في ضوء علم المصطلح الحديث د/حمدي صلاح الهدهد 1/ 105:100ط.دار البصائر 2008م
([5]) فقه المصطلحات د/ حسنين محمد تقي2 (http://www.balah.com) بتاريخ7/10/2004م
([6]) خصائص اللغة العربية في التعبير العلمي،د/ عبد الحليم منتصر 46:44 منشور في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة عدد مايو 1974م.
([8]) اختلاف المصطلح بين المشرق والمغرب د/ عبد السلام المسدي 10،9 كتاب العربي،الكويت، أكتوبر 2006م.
([9])فقه المصطلحات د/حسنين محمد تقي3 .