الخطاب القصدي وآلياته التواصلية في أسلوب العطف (نموذج الإمتاع والمؤانسة) [الحلقة السابعة] بقلم أ.د/ حسين كتانة
أستاذ البلاغة العربية في جامعة آل البيت - الأردن
2-القياس والتعليل: وهي مناسبة حاول التوحيدي أن يستعملها في خطاب العطف، معتمدا على المقارنات في الأوصاف المعطوفة التي تجعل أسلوبه يمحص المعاني في ربطها بالعلل، مع مقارنة الأشباه والنظائر، وتمييز الفروق المحتملة في الاصطلاحات المتداولة. وكأنه في هذه المناسبة يسعى إلى النفاذ إلى شيء مبهم وغامض، أو التطرق إلى ماله علاقة بالاستنباط كما هو في علمي الفلسفة وأصول الفقه. ومن نماذج ما نلحظه في أسلوبه لهذه المناسبة ما نقله بقوله: “..هذا النعت من قولي: إن الشريعة إلاهية، والفلسفة بشرية، أعني أن تلك بالوحي، وهذه بالعقل، أن تلك موثوق بها ومطمأن إليها، وهذه مشكوك فيها مضطرب عليها”[1].
فقد علل بخطاب العطف المعاني التي يظهر من خلالها توقف أحد الجزأين على تمييز الجزء الآخر، وهذا الأمر احتاج منه أيضا إلى الوقوف على بيان الأشباه الجامعة بين مفهومي الشريعة والفلسفة، لذلك ينقل في قوله : “وقال أيضا: إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة لها؛ وإنما جمعنا أيضا بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة، كما أن الخاصة تمامها بالعامة، وهما متطابقان إحداهما على الأخرى، لأنها كالظِّهارة التي لابد لها من البطانة، وكالبطانة التي لابد لها من الظِّهارة”[2].
وهذا المنحى في بيان الأشباه والفوارق، نجدها أيضا في تمييزه بين العلم والمال، اللذان أمتع بخصوصياتهما في معاني معطوفة ومسبوكة من أجل المؤانسة. “فالعلم مدبِّر، والمال مدبِّر، والعلم نفسي، والمال جسدي، والعلم أكثر خصوصية بالإنسان من المال، وآفات صاحب المال كثيرة وسريعة، لأنك لاترى عالما سُرق علمه وترك فقيرا منه؛ وقد رأيت جماعة سُرقت أموالهم ونهبت وأُخدت، وبقي أصحابها محتاجين لاحيلة لهم؛ والعلم يزكو على الإنفاق، ويصحب صاحبه على الإملاق؛ ويهدي إلى القناعة، ويُسبل الستر على الفاقة، وما هكذا المال.”[3]
ومن مظاهر التعليل بخطاب العطف في موضوع الإمتاع والمؤانسة، ما نلمسه من تعلق الألفاظ ب”المعنى التناسقي” الذي يفضي إلى مجموعة من النتائج التي يوردها معللة حسب مدارج البيان الذي تقتضيه نتيجة كل لفظة في مستواها التراتبي. “..وقِلة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة،…وما أكثر خجل الواثق، وما أقل حزم الوامق، وما أقل يقظة المائق”[4]. وهو نموذج من الأمثلة التي وردت في معاني العطف التي يظهر من خطابها المستويات التراتبية التي تحدد درجات كل من: الهيبة و الحشمة والوثبة، حسب مستوياتها التصاعدية أو التنازلية. وهذا المعطى له أبعاد نظرية في الدراسات اللسانية التداولية المعاصرة. ففي المثال السابق فإن الأجزاء المعطوفة مرتبة حسب المعطى الآتي: (أ ب ج د) :
(أ ): قلة الحشمة ، (ب): قلة الهيبة، (ج):باعث الوتبة، (د): (النتيجة : الهلاك) فقد لزم عن كل قول ما يقع تحته، وتفضي كلها إلى المدلول؛ وهو النتيجة التي قصدها في أعلى السلم وهي (الهلاك). ففي التعبير عن مستويات العطف التي اعتمدها، لجأ إلى الترتيب التصاعدي في السلم حيث إن الدليل الذي يعلو الآخر يكون هو الأقوى دلالة من الذي هو تحته، وفي قاعدة كل سلم، نجد ثلاثة أطراف في الخطاب تم التمييز بينهما، بواسطة معاني العطف المستعملة. وقد أخذت مسألة مراتب الحجاج باعتبارها ظاهرة لغوية، صبغة خاصة مع انبعاث الدراسات اللسانية ومباحث فلسفة اللغة[5]، حيث تميزت بدراسة وظائف ومراتب الخطاب من خلال الألفاظ الدالة على معان تقبل التدرج في اتجاه واحد. ومن الذين اهتموا بهذه الدراسة الإناسي الأمريكي سابيير إدوارSAPIR [6] وكذلك الفيلسوف الأمريكي تشارلز كارتون CARTON[7] والفرنسي أوزفالد ديكرو DUCROT[8] وكذلك صاحبه أسكومبرASCONBRE[9]. واللساني المنطقي جيل فوكونيي FAUCONNIER[10]. فقد حاول ديكرو في هذه النظرية التي بدأ تشكيلها في نموذج (1973)، ثم تابعها في نموذج (1980)، أن يدرس مجموعة من معطيات هذه النظرية الحجاجية انطلاقا من ظاهرة النفي، ودور قوانين الخطاب في معالجة ظواهر(SCALAIRES) للصورة التي طورت مع FAUCONNIER. والتي تشير إلى أن الجملتين (أ) و(ب) تنتميان إلى حقل استدلالي حجاجي متشابه يعرف بالملفوظ (د) عندما يعتبر المتكلم أن (أ) و(ب) براهين لصالح (د)[11].
ونستخلص من هذه المعطيات في قصدية خطاب العطف؛ أن مفهوم الحقول الحجاجية مرتبط بالنتيجة من جهة، وبالمتكلم من جهة أخرى. فعندما ينتمي معنى جملتين أو أكثر إلى الحقل الاستدلالي الحجاجي نفسه يعني ذلك؛ أنهما يسعيان إلى نتيجة واحدة ويمثلان أيضا اختيار المتكلم حيث يختار منهما الدليل الأنسب. وهو مستوى نظري وتطبيقي نجد معطياته واضحة في معاني العطف التي قدمها التوحيدي في مؤانسته.
======================
[1]-نفسه، 2/174.
[2]-نفسه، 2/168.
[3]-نفسه، 2/192.
[4]-نفسه، 2/176.
[5]-اللسان والميزان لطه عبد الرحمان، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998م، ص. 273- 274.
[6]– ينظر له، “التدرج : دراسة في التداوليات”
[7]-ينظر له “في البنية العامة للوصف المعرفي للمعاني المبلغة باللغة الإنجليزية”
[8]-ينظرله “مراتب الحجاج” و “العوامل الحجاجية والقصد الحجاجي”.
[9]-ينظر له “حتى ملك فرنسا أصلع” ، “كانت ذات مرة أميرة فيها من الحسن مثلما فيها من اللطف، 1و 2”
[10]-ينظر، المراتب التداولية والبنية المنطقية، الإستقطاب ومبدأ السلم، “ملاحظة حول الظواهر السلمية”.
[11] – DUCROT, Les Echelles argumentatifs, Paris, Minuit, 1980, p 17