حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [10] الخوف والخشية والوجل والرهبة والإشفاق والهيبة .. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

هذه طائفة من الألفاظ يحتويها حقل دلالي واحد, وهي متقاربة المعني, تغاضى كثير من اللغويين عما بينها من فروق, لكن ابن القيمّ جمعها في مكان واحد, وحاول أن يذكر الملامح الدلالية الفارقة بينها, أو يفرق بين بعضها من خلال ذكر أصله المعنوي, أو ذكر الاشتقاق الذي يجمع بين اللفظين في معنى عام من خلال التقليبات, والذي أطلق عليه الاشتقاق الأوسط, أو غير ذلك.

يقول ابن القيم: “والوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة، قال أبو القاسم الجنيد: الخوف: توقع العقوبة على مجاري الأنفاس وقيل: الخوف, اضطراب القلب وحركته من تذكر  المخوف, وقيل: الخوف: العلم بمجاري الأحكام, وهذا سبب الخوف, لا أنه نفسه، وقيل: الخوف: هَرَبُ القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف, فإن الخشية للعلماء بالله, قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [1]، فهي خوف مقرون بمعرفة, وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية”.

فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون, فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان: إحداهما حركة الهروب منه, وهي حالة الخوف. والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه, وهي الخشية، ومنه انخشى الشيء , والمضاعف والمعتل أخوان, كتقضي البازي وتقضض.

وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه, وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه، وبين الرَّهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى, يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع.

وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته.

وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال, وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة.

فالخوف لعامة المؤمنين, والخشية للعلماء العارفين, والهيبة للمحبين, والإجلال للمقربين, وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية … . فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب والإمساك, وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم, ومثلهما مثل من لا علم له بالطب, ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء … .

والإشفاق: رقّة الخوف, وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه, فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة, فإنها ألطف الرحمة وأرقها[2].

هذه كلمات ست جمعها ابن القيم في حيز واحد من كتابه, تتقارب في معناها وتختلف في لفظها, وهو يدرك بحسه اللغوي أن البعض قد يتغاضى عن تلك الملامح الفارقة بينها فيفسر بعضها ببعض على سبيل التجاوز، لكن لما كان الأمر يتعلق بمصطلحات القوم كان لابد من تحديد المفاهيم تحديداً دقيقاً كما رآها هو, وسأحاول في السطور التالية استعراض ما قاله  العلماء, ومدى موافقتهم أو مخالفتهم لما رآه ابن القيم.

1- الخوف والخشية:

ركز ابن القيم في كلامه على التفريق بين معنى الكلمتين, من خلال ذكر الملامح الفارقة بين المعنيين، وأهمها ما يلي:

1- الخوف اضطراب، وحركة، والخشية انجماع وسكون.

2- الخوف لا يكون عن معرفة والخشية خوف مقرون بمعرفة.

3- الخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين.

4- صاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب والإمساك, وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم

ويضيف الراغب ملمحاً آخر, فالخشية “خوف يشوبه تعظيم, وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وذلك خص به العلماء”[3]، وجعل الكفوي أصل المادة يرجع إلى ذلك. فقال: “وأصل الخشية خوف مع تعظيم، كما يضيف بعض الملامح الدلالية بين اللفظين، فالخشية عنده أشد من الخوف, لأنها مأخوذة من شجرة خاشية, أي يابسة, أما الخوف, فهو النقص, والخشية تكون من عظم المخشي, وإن كان الخاشي قوياً, والخوف يكون من ضعف الخائف, وإن كان الخوف أمراً يسيراً”[4]، أما الخوف فهو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة, كما أن الخوف يضاده الأمن ويستعمل في الأمور الدنيوية والأخروية”[5]. أو هو – كما أورده أبو هلال: “توقع الضرر المشكوك في وقوعه”[6].

ويرى ابن فارس أن الخاء والشين والحرف المعتل أصل واحد يدل على خوف وذعر, ثم يحمل عليه المجاز, فالخشية: الخوف[7]، في حين تدل مادة الخاء والواو والفاء على أصل واحد هو الذعر والفزع[8].

ومما يؤكد الفرق بينهما ورودهما متعاطفين في أكثر من سياق قرآني، والعطف يقتضي المغايرة, وذلك في مثل قوله تعالى: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ )[9]، والخشية مرغوبة وهي صادرة عن معرفة وإدراك بخلاف الخوف, وتكون في الحياة الدنيا دون الآخرة؛ لأن الدنيا دار ابتلاء, وهي حين تتعلق بذات لا تقر في القرآن إلا إذا كانت خشية لله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ )[11]، (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)[12], وإذا تعلقت في القرآن بأمر, فلابد وأن يكون كبيراً, كالغيب والساعة واليوم الآخر. ومن هنا يتضح أن الملامح الدلالية بين اللفظين كثيرة ومتعددة, ذكر بعضها ابن القيم وأضاف إليها غيره من العلماء, وهي لا تنتمي إلى نوع واحد من الملامح, بل يفهم بعضها من تتبع اللفظ في سياقاته المتعددة, وبعضها من الوقوف على الأصل المعنويّ للألفاظ, كما يستأنس بالأصل الاشتقاقي للكلمة أحياناً.

لكنك ترى كثيراً من أصحاب المعاجم قد تغاضوا عن تلك الملامح بين اللفظين ففسروا الخشية بالخوف, كما فسروا الخوف بالفزع[13]، كما فسروا الوجل مرة بالخوف[14]، ومرة بالخوف والفزع[15]، وكذاك الإشفاق والرهبة[16].

2- الوجـل:

فسر كثير من العلماء الوجل بالخوف أو الفزع, أو بهما معا[17], أو هو استشعار الخوف[18]. لكن ابن القيمِّ فسّرَه تفسيراً آخر, فقال: “وأما الوجل فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته, أو لرؤيته”[19] فكأنه خوف يرجف القلب ويصدعه, وفسر ابن عباس “وجلت قلوبهم” بمعنى فرقت قلوبهم[20]، وكذلك قال ابن أبي نجيح[21]. وقال ابن عاشور هو خوف مع طمع يكون لاستعظام الموجل منه[22]. ويفسره أبو هلال بالقلق وعدم الاطمئنان, ويذكر بعض الملامح الفارقة بينه وبين الخوف, فالوجل خلاف الطمأنينة, والخوف ضد الأمن, ويقال أنا من هذا الرجل على وجل, ولا يقال على خوف في هذا الموضع, وخاف متعدٍّ ووجل غير متعدٍّ, وصياغتهما مختلفتان أيضاً, وذلك يدل على فرق بينهما في المعنى[23].

فتفسيره بالقلق وعدم الاطمئنان يوحي بأنه نوع خاص من الخوف، شبهته أم الدرداء باحتراق السعفة, ثم قالت: أما تجد له قشعريرة[24]، فكأنه خوف بقشعريرة, يهتز له القلب ويرتجف كما ترتجف السعفة حين تسري فيها النار[25]، وهذا يتناسب إلى حد كبير مع تفسير ابن القيم لمعنى الوجل. مما سبق يتضح أن الوجل يفترق في المعنى عن الخوف والفزع خلافاً لما مضى عليه كثير من الناس, كذلك لا يوجد ترادف تام بين الألفاظ الثلاثة خلافاً لما رآه أحد الباحثين بأن الخوف والفزع والوجل مترادفة تماماً[26].

3- الرهـبة:

فسر ابن القيم الرهبة بأنها الإمعان في الهرب من مكروه, قال: وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه. فيفهم من هذا التعريف أمران: الأول أنها إمعان في الهرب من مكروه ما, الثاني: أنها ضد الرغّبة، فإذا كانت الثانية انجذاباً إلى محبوب، فإن الأولى نفورَ وهروب من مكروه. كما أدرك العلاقة بين الرهب والهرب حيث يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد، واعتبرها الراغب نوعاً خاصاً من الخوف فيه تحرز واضطراب, إذ يقول: “والرّهبة والرّهَب مخافة من تحرز واضطراب”[27]. في حين جعلها أبو هلال طول الخوف واستمراره, ومن ثم قيل للراهب راهب, لأنه يديم الخوف[28]، ويرى السمين أنهما بمعنى الخوف, وهي مأخوذة من الرَّهابة, وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف[29]، وإلى هذا التفسير مال أصحاب المعاجم, فابن فارس جعل المادة أصلين: أحدهما يدل على الخوف, والآخر على دقة وخفة، فالأول: الرهبة … الخ[30]، وفى العين “رهبت الشيء أرهَبُهُ رَهبَاً ورهبةًَ: أي خفته”[31] وجعلها أحد الباحثين مشتقة من الرّهب, وهو الجمل الذي أنهكه وأهزله طوال السفر[32]، وعليه فالرهبة: خوف شديد يصحبه اضطراب وضعف[33].

فالملامح الدلالية للفظ كما يلي:

1- إمعان في الهروب من مكروه.            

2- خوف فيه تحرز واضطراب.

3- خوف يتسم بالطول والاستمرار.           

4- أنه ضد الرغبة.

5- أن بين الرهب والهرب تناسب في المعنى.

4- الهيـبة:

الهيبة: خوف مقارن للتعظيم والإجلال, وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة, ويفهم من كلام ابن القيمِّ أنه نوع خاص من الخوف يصحبه إجلال وتعظيم, وأن من أهم ملامحه أنه يُصْحَبُ بالمحبة والمعرفة, فهو خوف عن علم ومحبة لمن يهابه الإنسان. أما أصحاب المعاجم,  فبعضهم جعله بمعنى الإجلال والمهابة[34]. وقصره ابن فارس على الإجلال والمخافة, فقال: “الهاء والياء والباء كلمة إجلال ومخافة”[35]، وكذلك فعل صاحب اللسان[36]، أما صاحب القاموس فقد جعل معناها الخوف والتَّقِيّة[37]، وقال ابن سيده: “الهيبة: التَّقِيّة من شيء واحد[38].

فالهيبة – كما مر – ليست خوفاً خالصاً, بل خوف مشوب بالإجلال والتعظيم, وهو لا يكون إلا عن معرفة ومحبة, كما أنَّ من سماته التِّقِيّةُ من كل شيء.

5- الإشـفاق:

الإشفاق: رقّة الخوف, وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه, فنسبه إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة, فإنها ألطف الرحمة وأرقها، فهو خوف خاص تشوبه رقة ورحمة, وقد يكون إشفاقاً على شخص أو إشفاقاً من أمر, فالمادة تدل على أصل واحد, هو الرقة في الشيء، ثم يشتق منه, فمن ذلك قولهم: “أشفقت من الأمر إذا رققت وحاذرت[39]. والإشفاق – عند الراغب – عناية مختلطة بخوف, لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه[40].

أما أصحاب المعاجم, فيرون أن الشفق والشفقة اسم من الإشفاق، وهو أن يكون الناصح من النصح خائفاً على المنصوح[41]، أو هو الخيفة من شدة النصح[42]. ويرى ابن عاشور أن الإشفاق: خوف من أمر يحصل مستقبلاً[43]، في حين فسره كثير من المفسرين بالخوف، أو الخوف والوجل[44].

وهكذا ترى أن مجموع آراء العلماء في تفسير اللفظ يظهر لنا الملامح الدلالية الفارقة له وأهمها ما يلي:

  • أنه خوف مشوب برقة ورحمة.        

2- عناية مختلطة بخوف.

     3- الخوف يكون مرتبطا بمن تحبه أو ترحمه.

4- أن يكون في المستقبل.

5- أن يكون الخوف والحذر من شدة النصح.

وهكذا ترى أن كل لفظ من الألفاظ السابقة يشترك مع مجموعها في المعنى العام، وهو الخوف, لكنه يفترق عنه بملمح دلالي فارق على الأقل, أو بعدة ملامح فارقة, كما ترى حرص ابن القيم على الجمع بين الألفاظ التي تنضوي تحت حقل دلالي واحد في مكان واحد ليسهل عليه التفريق بين معانيها من خلال ما يذكره من ملامح, بعضها من خلال ما يبرزه السياق, وبعضها من خلال الأثر الناتج، أو الحكم المترتب على كل منها, وبعضها من خلال ذكر الضد, أو اختلاف الصيغ, أو للاشتقاق أو غير ذلك.

كما ترى أيضاً أن العلماء لم يتفقوا على ملمح دلالي واحد للكلمة, بل يجتهد كل منهم في إيجاد ما يراه مناسباً من ملامح قد تتفق مع ابن القيم أو تختلف. وتلحظ أيضاً أن أصحاب المعاجم – في الغالب – يتغاضون عن هذه الفروق في تفسير الألفاظ  المتشابهة, فالخوف هو الوجل, والخشية هي الخوف, والرهبة خوف ووجل, وكذلك يميل كثير من المفسرين إلى المعنى العام للألفاظ.

==============

[1] فاطر الآية 28

[2] مدارج السالكين 1/507 , 508 , 509 , 514

[3] المفردات ص 155

[4] الكليات لأبي البقاء ص 428

[5] السابق ص 166

[6] الفروق اللغوية ص 254

[7] المقاييس 2/184

[8] السابق 2/230 وانظر الدر المصون 1/305

[9] الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن الكريم د. محمد عبد الرحمن بن صالح الشايع مكتبة العبيكان الرياض ط 1414هـ 1993 والرعد أية 21

[10] المائدة آية 44

[11] الأحزاب أية 37

[12] الأحزاب أية 39

[13] العين 2/284 ، 312 واللسان والقاموس “خشى” و “خوف”

[14] العين 6/182

[15] اللسان “وجل”

[16] اللسان “رهب” و “شفق”

[17] العين 6/182 واللسان والقاموس “وجل” وفتح القدير 2/368 والجامع لأحكام القرآن 7/349 والبحر المحيط 5/267

[18] المفردات ص 528

[19] مدارج المساكين 1/508

[20] فتح القدير 2/369

[21] معاني القرآن للنحاس تحقيق د. يحي مراد دار الحديث القاهرة 1425- 2004 جزء أول ص 418

[22] التحرير والتنوير 9/256

[23] الفروق ص 257

[24] الكشاف 2/ 234

[25] السابق “هامش” ص 234.

[26] معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم ص 238

[27] المفردات ص 210

[28] الفروق ص 255

[29] الدر المصون 1/315

[30] المقاييس 2/447

[31] العين 4/47 وانظر اللسان والقاموس “رهب” وانظر الجامع لأحكام القرآن 1/343 وفتح القدير 1/97

[32] نسب ذلك إلى المقاييس لابن فارس واللسان والمفردات “رهب” ولم أعثر على هذا الاشتقاق في الكتب الثلاثة مادة “رهب”

[33] معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم ص 242

[34] العين 4/98 “هيب”

[35] المقاييس 6/22 “هيب”

[36] اللسان “هيب”

[37] القاموس “هيب”

[38] اللسان “هيب”

[39] المقاييس 6/22 “هيب”

[40] المفردات ص 267 “شفق” والكليات ص 121

[41] اللسان

[42] العين 4/98 “هيب”

[43] التحرير والتنوير 15/338

[44] البحر المحبط 7/188 وفتح القدير 3/384 والجامع لأحكام القرآن 12/139

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu