حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

المقياس الصوتي النقدي للغات العرب المزهر للسيوطي أنموذجًا [الحلقة الثالثة] د/ رجب فوزي إمام

مدرس أصول اللغة بكلية اللغة العربية بأسيوط - جامعة الأزهر

من هذه العيوب الصوتية التي ذكرها السيوطي:

3 ـ  العنعنة :

        قال السيوطي: «من ذلك العنعنة، وهي في كثير من العرب في لغة قيس وتميم، تجعل الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في أنك: عنك، وفي أسْلم: عَسْلم، وفي أذُن: عُذُن»([1]).

        يرى السيوطي أن العنعنة من اللغات المذمومة، وهو في ذلك متابع للخليل([2])، والجاحظ([3])، وابن فارس([4]).

        وقد قرئ بهذه اللهجة بحضرة النبي (r)، حيث قرأ رجل من بني تميم عَن  ([5]) في قوله تعالى: ([6]) ([7])، وعلى هذه اللهجة جاء قول الشاعر :

أَعَن تَرَسَّمتَ مِن خَرقاءَ مَنزِلَةً  \  ماءُ الصَبابَةِ مِن عَينَيكَ مَسجومُ([8])

يريد: أأن ترسمت.

        يقول ابن دريد: «هي همزة قلبت عينًا؛ لأن بني تميم، ومن يليهم يحققون الهمزة، حتى تصير عينًا»([9]).

        وعليه تتحول الهمزة بسبب المبالغة في الضغط عليها إلى عين، أو شبه عين، أي إلى صوت قريب من الهمزة، يمتاز عنها بالجهر، ويتقارب معها في المخرج([10])، وبذلك يكون إبدال الهمزة عينًا من صور تحقيق الهمزة.

        ويرى الدكتور إبراهيم أنيس أن الناطقين بهذه اللهجة يميلون إلى الجهر بالأصوات؛ لتكون واضحة في السمع، والهمزة من الأصوات الشديدة، وأهل البادية يحققونها في لهجاتهم، وحين يُبالغ في هذا التحقيق، ويراد أن تكون أوضح في السمع، يستبدل بها أحد الأصوات الحلقية القريبة منها مخرجًا وصفة، وأقرب أصوات الحلق إليها هو «العين»؛ لأن العين صوت مجهور، وهو أقرب أصوات الحلق المجهورة للهمزة مخرجًا([11]).

        وذلك الإبدال له أثر في أيامنا هذه، وذلك على طريقة نطق بعض أهالي صعيد مصر : «لع» في «لأ»، وأهل النوبة يقولون: فلان سعل عليك، يعني : سأل([12].

        ومع أن إبدال الهمزة عينًا يسير وفق قوانين التطور الصوتي؛ لأن الانتقال من الهمزة التي هي حبسة حنجرية، شديدة بالغة الشدة، وليست مجهورة ولا مهموسة إلى العين الحلقية، المجهورة، المائلة إلى الرخاوة هو انتقال من الأصعب إلى الأسهل([13]) .

        إلا أن علماء اللغة القدامى يعدّونها من اللغات المذمومة أو المرغوب عنها، ويمكن تلمس السبب في عدّها لغة مرغوبًا عنها من كلام الدكتور محمد حسن جبل الذي يقول: «الأمر الرابع المميز لصوت الهمزة هو قِصَره، وذلك القصر لازم للعصر المكوّن للهمزة»([14]) .

        وقد حدد زمنه بنحو (03‚ 0 إلى 05‚0 من الثانية) في موضع آخر([15]) .

        وعليه يكون السبب في عد العنعنة لغة مرغوبًا عنها هو الاقتصاد الزمني الموجود في نطق الهمزة، والمفقود في نطق العين، وكما يقول الدكتور عبد الغفار هلال عن العنعنة: «هي مناسبة لطبيعة البدو الذين يحتاجون إلى نبرة عالية»([16])، ولا شك أن ذلك سيستغرق زمنًا أطول.

     وقد يكون السبب ليس له تعلق باللغة في ذاتها، بل متعلق بالمتكلمين بها، حيث إنهم لا يستطيعون النطق بالهمزة المبدوء بها ؛ لعيب في جهازهم النطقي، فقد ذكر مجد الدين بن الأثير (ت 606هـ) أنهم  يفعلونه؛ لبحح في أصواتهم([17]).

4 ـ  الفحفحة :

        قال السيوطي : «الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عينا»([18]).

        يرى السيوطي أن الفحفحة من اللغات المرغوب عنها، وأنها قلب الحاء عينًا مطلقًا، ويتابعه في ذلك الزَّبيدي (ت1205هـ) ([19])، وأحمد فارس الشدياق (ت1299هـ) ([20]).

        والمتتبع لأمثلة هذه اللهجة المرغوب عنها يجد أن اللغويين يقصرون أمثلتهم على لفظة واحدة، أو شاهد واحد، مما يجعل الباحث في حيرة من أمر هذه اللهجة، وحقيقتها، وهذا الشاهد هو قراءة ابن مسعود (ت32هـ) : (عتى) ([21]) في قولة تعالى: لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ([22]بإبدال الحاء عينًا([23]).

        ويرى أحد الباحثين المحدثين أن ما ورد من أمثلة أخرى لهذه اللهجة، مثل: اللحم الأعمر أعسن من اللحم الأبيض، أي: اللحم الأحمر أحسن من اللحم الأبيض، وقولهم: «علت الحياة لكل عي» أي «حلت الحياة لكل حي» للصناعة أثر بادٍ على كل منها، وهي أشبه بالفوازير والنكات التي يؤلفها الناس؛ لتعجيز بعضهم بعضًا في النطق([24]) .

        ومع اشتراك صوتي العين والحاء في المخرج إلا أنه قل الإبدال بينهما؛ لقلة الشبه بين جرْسيهما، فالعين ناصعة، والحاء بحاء([25]).

        وعليه فإن ما يميز صوت العين عن صوت الحاء – وهما من وسط الحلق – هو:«

1 –  اتساع مخرج العين نسبيًا عن مخرج الحاء، فالعين متوسطة – على الوصف القديم، والحاء رخوة .

2 –  اختلاف جرسي صوتيهما؛ فالعين ناصعة والحاء بحاء؛ وذلك لرطوبة مخرج الأولى، وجفاف مخرج الثانية .

3 –  أن العين مجهورة، بينما الحاء مهموسة .

4 –  أن العين أعمق مخرجًا من الحاء في وسط الحلق، أما الحاء فأرفع منها، أي أدنى إلى الفم»([26]) .

        وعليه فلا أجد سببًا لعدّ هذه اللهجة من اللهجات المرغوب عنها سوى قلة استعمال هذه الظاهرة الصوتية، وكما يقول الدكتور عبد الغفار هلال: «لم يسمع قلب الحاء عينًا عن هذيل في غير هذه القراءة المروية، والمثال الواحد لا يكفي لإثبات اللهجة»([27]).

===========================

([1]المزهر 1/221،  222 .

([2]ينظر : العين 1/91 (ع ن). 

([3]ينظر : البيان والتبيين 3/145 .

([4]ينظر : الصاحبي ص 29 .

([5]قراءة شاذة ، نسبت لتميم ، ولم ترد في كتب الشواذ. ينظر: البرهان في علوم القران 1/220 .

([6]المائدة: من الآية (52) .

([7]ينظر : المحدث الفاصل بين الراوي والواعي لابن خلاد الرامهرامزي ص 447، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر القرطبي 8/278 .

([8]البيت من البسيط، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 254، وديوان الأدب 3/199 . خرقاء: اسم امرأة،  والصبابة: شدة الشوق، ومسجوم: مصبوب. ينظر شرح ديوان ذي الرمة للباهلي ص371.

([9]جمهرة اللغة 2/886 (ص ع ك) .

([10])  ينظر: الأصوات واللهجات قديمًا وحديثًا ص 248 .

([11]ينظر : في اللهجات العربية ص 97 .

([12]ينظر : فصول في فقه العربية ص 137 .

([13]الهمز والتسهيل في القراءات واللهجات للدكتور أحمد طه سلطان ص 43 .

([14]المختصر في أصوات اللغة العربية ص 75 .

([15]المرجع السابق ص 78 .

([16]اللهجات العربية نشأة وتطورًا للدكتور عبد الغفار هلال ص 155 .

([17])  ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لمجد الدين بن الأثير 3/314.

([18]المزهر 1/222 .

([19]ينظر : تاج العروس 7/11 .

([20]ينظر : الجاسوس على القاموس 1/183 .

([21]ينظر: المحتسب 1/343، ومختصر في شواذ القرآن ص 68.

([22]يوسف : من الآية (35) .

([23]ينظر : الوقف والابتداء لابن سعدان ص 69، وتهذيب اللغة 1/72، والكشاف 2/468 .

([24]ينظر : اللهجات العربية في التراث 1/371 .

([25]ينظر : المختصر في أصوات اللغة العربية ص 88 .

([26]مصطلحات صوتية غامضة للدكتور علي سيد أحمد ص 110 .

([27]اللهجات العربية نشأة وتطورًا ص 157 .

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu