حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

علم اللغة التطبيقي [الحلقة الأولى: مفهومه، علاقاته، مجالاته] بقلم أ.د/ عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين لشئون الدراسات العليا- جامعة الأزهر

أولا- مفهوم علم اللغة التطبيقي:

تناولنا بالدراسة فيما سبق (علم اللغة العام) في مستوييه الصوتي والدلالي، وعرفنا أنه علم يدرس اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، أي أنه علم مغلق على نفسه يحاول فهم الظاهرة اللغوية وخدمتها من داخلها.

أما علم اللغة التطبيقي فهو علم منفتح على العديد من المجالات المعرفية، التي يفيد منها ويفيدها، يستمد منها، كما يمدها, وقبل البدء في تعريف هذا العلم نشير إلى أن بعضهم يذكر مصطلحا آخر لهذا العلم هو (اللسانيات التطبيقية) والمحصلة بين الاختلافين واحدة، فهما مصطلحان يدلان على علم واحد ويعالجان المسائل ذاتها.

ويعد علم اللغة التطبيقي ميدانًا  (( تلتقي فيه علوم مختلفة حين تتصدى لمعالجة اللغة الإنسانية، أو هو علم ذو أنظمة علمية متعددة يستثمر نتائجها في تحديد المشكلات اللغوية وفي وضع الحلول لها، وإذا كان علم اللغة لا يمثل العنصر الوحيد في ميداننا، لأنه يستقي من علوم أخرى، فلاشك أنه يمثل أهم عنصر فيه.))([1])

وبهذا يتضح لنا أن علم اللغة التطبيقي ليس التطبيق العملي لعلم اللغة العام، وإنما هو تطبيق عملي لحل مشكلات متعددة لها ارتباط بمجالات عديدة، للغة علاقة وثيقة بها.

إذا علم اللغة التطبيقي يبحث عن مشكلة (لها علاقة باللغة)، ويحاول حلها بطريقة علمية منهجية.  فـ(( تعدد اللهجات في المجتمع الواحد، هذه المشكلة يمكن التعامل معها من خلال التخطيط اللغوي، ومثلها أيضا مشكلة التواصل مع أفراد ثقافات أخرى، حيث يمكن التغلب عليها من خلال تعليم اللغات الأجنبية.)) ([2])

وتشوب عملية تعليم اللغة الأجنبية الكثير من الصعوبات والعقبات التي تجعل منها مشكلة تحاول البحث عن حل، هذا الحل يقدمه (علم اللغة التطبيقي)؛ كونه علما قائما على حل المشكلات التي لها علاقة باللغة.

ومن الحلول التي قدمها علم اللغة التطبيقي لتذليل صعوبات تعلم اللغة الأجنبية منهجان حل الثاني منهما محل الأول.

المنهج الأول: التحليل التقابلي (أو التقابل اللغوي)، الذي كان يُعنى بدراسة التقابلات بين اللغتين: (الأم أو لغة المتعلم الأصلية) و(اللغة الثانية أو الأجنبية التي يراد تعلمها)، وتفرز هذه التقابلات اتفاقات بين هاتين اللغتين في أنظمتها المتعددة: صوتية وصرفية ونحوية ودلالية، يمكن البناء عليها، فكلما كان الاتفاق كبيرا بين اللغتين زاد ذلك من سهولة تعلم اللغة الثانية، وكلما كان الاختلاف كبيرا زاد من صعوبتها. وكان أصحابه هذا المنهج يرون أنه الطريقة الوحيدة للقضاء على صعوبة تعلم اللغة من خلال وضع الأنظمة المتعددة بين اللغتين أمام الدارس؛ لتلافي الأخطاء اللغوية.

المنهج الثاني: تحليل الأخطاء، ويقوم هذا المنهج على النظر إلى الأخطاء التي يقع فيها الدارس بالفعل، مع العمل على جمع تلك الأخطاء، وتصنيفها، ثم تحليلها، ومن ثم تقوم عملية تحليل الأخطاء على مراحل ثلاث: الجمع، والتصنيف، والتحليل، سنتناولها فيما بعد بالتفصيل. ويرى أصحاب هذا المنهج أنه الأنجع في القضاء على الصعوبات الحقيقية لدى الدارس، وليس افتراض وجود هذه الصعوبات أمامه.

وما نذهب إليه ما رآه البعض من تكاملية هذين المنهجين في الدراسة، فلا يمكن الاعتماد على التحليل التقابلي وحده، دون النظر إلى الأخطاء الفعلية التي يقع فيها الدارسون، ولا يمكن النظر إلى تلك الأخطاء دون بيان الأسس المنهجية وأهم أسباب وقوع هذه الأخطاء والمتمثل في اختلاف أنظمة اللغات، مما يجب أن يراعيه متعلم اللغات الثانية.

ويُرجِع العلماء ظهور علم اللغة التطبيقي (اللسانيات التطبيقية) واعتباره ميدانا مستقلا إلى حوالي عام 1946 حين صار موضوعا مستقلا في معهد تعليم اللغة الإنجليزية بجامعة ميتشجان، وكان معهدا متخصصا في تعليم الإنجليزية لغةً أجنبية، ثم بدأ هذا العلم ينتشر في ربوع العالم كله، وتمخض عن ذلك تأسيس (الاتحاد الدولي لعلم اللغة التطبيقي) عام 1964م، ينتسب إلى عضويته أكثر من خمس وعشرين جمعية وطنية لعلم اللغة التطبيقي في أنحاء العالم، وله مؤتمر عالمي كل ثلاث سنوات يتم فيه عرض المستجدات في مجالاته المتعددة. ([3])

وكان من أهم الأسباب التي ذكرها العلماء لظهور هذا العلم، إرادة المستعمرين فرض نفوذ لغتهم الإنجليزية على المستعمرات التي احتلوها، ومحاولة تعلم لغة هذه البلاد، ونتج عن هذه الإرادة التعليمية صعوبات متعددة، عمل العلماء على حلها من خلال دراسة المقابلات بين اللغات كما ذكرنا.

ثانيا- علاقات علم اللغة التطبيقي بالعلوم الأخرى:

يرى العلماء أن هناك علومًا أساسية لها علاقة وثيقة بعلم اللغة التطبيقي أو له علاقة بها، من حيث اعتماده عليها في إمداده بالمعلومات الكافية لأداء مهمته التطبيقية، ومن أهم تلك العلوم أربعة: (علم اللغة- علم اللغة النفسي، علم اللغة الاجتماعي، علم التربية)، وهذا بيان لتلك العلاقة:

  • علم اللغة:

درسنا من قبل أن (علم اللغة العام) أو (علم اللغة) يدرس اللغة في ذاتها أي من خلال المستويات اللغوية المتعددة: صوتية أو صرفية أو نحوية أو دلالية، وذلك لخدمة اللغة ذاتها، دون النظر إلى عوامل خارجية كتأثير المجتمع في اللغة على سبيل المثال.

لكننا وجدنا علم اللغة التطبيقي في حاجة ماسة إلى مبادئ ذلك العلم، تتمثل هذه الحاجة في ضرورة الاعتماد على بعض مبادئ علم اللغة العام، ومنها: ([4])

  • أن معرفة النتائج الصوتية التي توصل إليها علم الأصوات سواء فيما يتعلق بالجانب النظري أو المعملي تفيدنا في تعليم الدارسين طريقة النطق الصحيحة للأصوات، ومعرفة المعايير المنهجية لهذه الصحة، من حيث توضيح مخارج تلك الأصوات وصفاتها، والنظام المقطعي لها، ومدى موافقته لنظام اللغة الثانية المراد تعلمها، وكذلك مواضع النبر والتنغيم، مما يعد مخالفته مخالفة للنطق الصحيح للغة، ويوقع الدارس في العديد من الأخطاء.
  • أن اللغة عبارة عن بناء متكامل متماسك مكون من المستويات المتعددة: صوتية وصرفية ونحوية ودلالية، ولا يمكن حل مشكلة خاصة باللغة دون معرفة تلك المستويات الخاصة باللغة، فاللغة كما يقال ليست مجموعة من المفردات المستقلة التي بمعرفتها يمكن الحكم على الشخص بتعلم تلك اللغة، وإنما لابد من مراعاة ذلك البناء الكبير ومعرفة قواعده وأنظمته بالإضافة إلى تحصيل مفرادت اللغة وتكوين مخزون لغوي كاف. 

علم اللغة النفسي:

تقوم الدراسة في هذا العلم أولا على المزج ما بين مبادئ علم اللغة وكذا علم النفس، ليخرج لنا ذلك العلم المزيج المعروف بعلم اللغة النفسي، والذي يعنى في المقام الأول بعمليتين مهمتين، هما: الاكتساب، وهو يعني: كيف يكتسب الإنسان اللغة، ويوضح كيف يستطيع الإنسان تحصيل أكبر قدر من كلمات اللغة وجملها، وبيان العمليات النفسية الكامنة خلف هذا الاكتساب.

والأداء الذي يعني كيف يؤدي الإنسان اللغة التي ينطقها أو يستعملها، وكذلك العمليات النفسية الكامنة خلف هذا الأداء.

وهنا نقطة مهمة ألح عليها العلماء وهو التفريق ما بين (الاكتساب) و(التعلم) فـ((الاكتساب يحدث في الطفولة.. أما تعلم اللغة فيحدث في مرحلة متأخرة حين يكون الأداء اللغوي قد تكوَّن، وحين تكون العمليات العقلية قد نضجت أو قاربت النضج، ومعنى ذلك أن الذي يتعلم اللغة هو غير ذلك الطفل الذي كان يكتسب اللغة، إذ حدث تغير كيفي في وظائف الأعضاء، وفي النشاط النفسي))([5])

كذلك من الفروق بينهما أن ((الاكتساب عملية غير واعية، تتم دون تخطيط مسبق، وهي مرتبطة بالنمو المعرفي والإدراكي لدى الإنسان، في حين أن التعلم عملية واعية منظمة تهدف إلى اكتساب المتعلم مهارات وخبرات لغوية جديدة)) ([6])

ومن هنا يجب الحذر عند الاعتماد على لغة الطفل وكيفية تكوينها واكتسابها في بيان كيفية تعليم اللغة الثانية للناطق بغيرها، فهناك الكثير من الاختلافات التي لخصتها فكرة (الاكتساب) عند الأول، و(التعلم) عند الثاني، ووجوب مراعاة تلك الاختلافات في عملية تعليمية ناجحة.

ويبقي السؤال كيف يفيد (علم اللغة التطبيقي) من (علم اللغة النفسي)؟

من الجيد الاعتماد في تعليم اللغة الثانية كعملية (تعلم) على العملية الأخرى المناظرة لها وهي عملية (الاكتساب)، فلا شك أن هناك العديد من الأسس التي تخضع لها العمليتان، مع ضرورة التفريق بينهما بحسب ما ذكرنا، لكن يبقي أن لغة الطفل قد تكون مرشدا مهما في تعلم اللغة الثانية مما هو من صميم مجالات علم اللغة التطبيقي.

كذلك ((فإن معرفة الخصائص النفسية والمعرفية للمتعلمين ومعرفة ميولهم واتجاهاتهم تساعد كثيرا في وضع الطريقة الملائمة للتدريس، كما تيسر اختيار المحتوى اللغوي الذي نقدمه لهؤلاء بما يناسب نموهم المعرفي واستعدادهم.)) ([7])

علم اللغة الاجتماعي:

يدرس هذا العلم اللغة من منظور اجتماعي، أو يدرس اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، حيث يؤثر المجتمع في اللغة، كما تؤثر هي فيه، فيعد هذا العلم نقطة الالتقاء بين اللغة والمجتمع.

إذا كان من مجالات علم اللغة الاجتماعي العلاقة بين اللغة والثقافة، فإن تعليم اللغة لغير الناطقين بها لابد أن يشتمل في إطاره العام ثقافة المجتمع المراد تعلم لغته، بمفرداتها، وتعبيراتها، وكناتها، وكل تلك العناصر التي تحمل شحنات ثقافية ذات صبغة اجتماعية مهمة في تعلم اللغات.

وكذلك من المهم الإجابة عن سؤال مهم: أي لغة يراد تعلمها؟ وذلك في ظل التعدد اللغوي والازدواجية اللغوية التي تسود المجتمع، فإذا كانت اللغة المتعلمة العربيةَ فهل ما سيتعلم تعلمه الفصحي أم اللهجات، وإذا كانت اللهجات فأي اللهجات في وسط هذا التعدد اللهجي الذي يسود الدول العربية ولا يكاد يتفق فيها قطر مع آخر، بل تتعدد اللهجات في الدولة الواحدة.

علم التربية:

من المجالات المعرفية المهمة ذات الصلة الوثيقة بعلم اللغة التطبيقي علم التربية، ومن الواضح أن ((تعليم اللغة يتحرك في ضوء سؤالين أحدهما لا ينفك من الآخر: ماذا نعلِّم من اللغة؟ وكيف نعلمه؟ ومن الواضح أن السؤال الأول سؤال عن المحتوى، وأن الثاني سؤال عن الطريقة. ويتكفل بالإجابة عن السؤال الأول علم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة النفسي في بعض الجوانب. أما السؤال الثاني فيجيب عنه علم التربية، وفي بعض جوانبه أيضا علم اللغة النفسي )) ([8])

ولذلك فيعتمد علم اللغة التطبيقي في مجال تعليم اللغة الثانية على بيان نظريات التعلم المناسبة، وكذلك بيان خصائص المتعلم، واعتماد الإجراءات والوسائل التعليمية المناسبة.

===============

[1])) علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية (13) د. عبده الراجحي، دار المعرفة الجامعية- الإسكندرية، 1995م

[2])) تعليم العربية لغير الناطقين بها في ضوء اللسانيات التطبيقية (9) وليد أحمد العناتي، من متطلبات نيل درجة الماجستير، بكلية الدراسات العليا- الجامعة الأردنية، 1997م.

[3])) ينظر: علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية (8، 9).

[4])) ينظر: تعليم العربية لغير الناطقين بها في ضوء اللسانيات التطبيقية (61)

[5])) علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية (22).

[6])) ينظر: تعليم العربية لغير الناطقين بها في ضوء اللسانيات التطبيقية (21).

[7])) تعليم العربية لغير الناطقين بها في ضوء اللسانيات التطبيقية (28).

[8])) علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية (27).

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu