وراء كل عظيم كلمة (7) الكلمة وأثرها في تغيير المسار السلوكي.. بقلم أ.د/ رفعت علي محمد
أستاذ البلاغة والنقد وعميد كلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
قد تكون الكلمة الصادقة سبباً في تغيير المسار، وتصحيح الوجهة واعتدال الميزان، واستقامة الطريق بعد أن كاد ينحرف بصاحبه، سلوكياً أو علمياً.
والكلمة هنا صورة من صور العناية الإلهية بعبده أجراها على لسان ناصح حكيم، أو أستاذ رشيد، وقد تكون من هاتف، أو من خلال رؤيا منامية.
ومن هذا ما حدث للولي الزاهد، إبراهيم بن أدهم، فقد كان من أولاد الملوك، فخرج يتصيد، فهتف به هاتف من قربوس سرجه ما لهذا خلقت، ولا به أمرت.
وفي رواية: أنه بينما يركض فرسه سمع صوتاً فوقه: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).. اتق الله وعليك بالزاد ليوم العاد…
ومؤدى الروايتين واحد، هو أن الإنسان في هذه الدنيا لم يخلق للهو ولا للعبث، بل خلق لغاية سامية، هي عبادة الله سبحانه بمعناها الواسع، وأفقها المتراحب.
وقد استجاب إبراهيم لنداء الحق سبحانه ونزع عن نفسه نداء الغفلة والنزوة، وانخلع عن متع الحياة وشهواتها، واستبدل بها صفات الزهد والعبودية واليقين بموعود الله لمن استجاب لأمره، فأفاض الله عليه حتى صار ملهماً محدثاً، صاحب ولاية وعناية، بعد أن كان يحيا حياة الترف، شأن أبناء الملوك وأولاد الأثرياء.
وقد يكون من المناسب هنا الإشارة إلى أن هواتف الجان صورة كونية حقة، ينذرون ويبشرون، وخصوصاً من سلك منهم عبر مسيرة الحياة سلوك الخير وأذعن بالإيمان.
وقد أورد ابن كثير في البداية والنهاية كثيراً مما هتف به هؤلاء إرهاصاً بنبوة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم).
وللحافظ ابن أبي الدنيا وكذا الخرائطي رسالة خاصة في هذا الشأن.
لقد انتزعت هذه الكلمة إبراهيم من حياة اللهو والعبث والمجون، وارتقت به إلى عالم السمو والطهر والنقاء، حتى صار مربياً حكيماً، يرشد الخلق على الله ويدلهم على طريقه.
لقد صحب إبراهيم أرباب السلوك، بعد أن ودع رفقاء السوء، وأصحاب الرفاهية، وكان مما تعاهد عليه مع صحبه ألا يأكلوا شيئاً إلا بعد تيقن حله، فلما عجزوا عن وجدان الحلال، قالوا: لا نأكل إلا قليلاً، قدر ما يقوم به الصلب.
وقد روت كتب التراجم ما يثبت رسوخه في باب الفضائل، وسموه في مدارج السالكين إلى الله…
ومما جاء فيها دالاً على زهده وتوكله وأستاذيته في هذا الشأن: أن شفيقاً البلخي قال له: كيف يكون معاشك ؟ قال: إن وجدنا شكرنا، وإلا صبرنا، قال إبراهيم: هذه الخصلة في كلاب خراسان. قال شفيق: فكيف معاشك ؟ قال: إن وجدنا أنفقنا وإلا شكرنا، فقبل شفيق رأسه، وقال: أنت الأستاذ.
وفي بعض المراجع تحكي هذه الحكاية بالعكس، فما نسب لشفيق نسب إلى إبراهيم.
وما حدث مع إبراهيم بن أدهم حدث مثله مع الفضيل بن عياض إذ لم يكن الرجل في بدايته من زمرة الصالحين، بل كان يقطع الطريق، وكان قد عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدار سمع هاتفاً يقول: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله }.. فقال: يا رب قد آن، فتاب وهام على وجهه.
لقد سمع الرجل الآية بقلبه، وأنصت لها بفؤاده، فشعر وكأن الله يخاطبه هو، وكأن القرآن يتنزل عليه هو، فهو المقصود بذلك العقاب الشديد على قسوة القلب، ومعصية الجوارح، وهو المراد بذلك التجهيل على الفتور والتكاسل فيما ندب إليه من ذكره وطاعته… فما كان منه إلا الاستكانة والخضوع كنداء الحق، والاستجابة لأمر الله، والانخلاع كلية عما كان عليه من المعاصي والآثام، والدخول في سلك أرباب التقى والصلاح.
كما أن في الآية تحريضاً للمؤمنين على مراقبة ذلك والحذر من التقصير وفيها تحذير بالغ من أن يكونوا كأهل الكتاب قسوة وجفاء، وبعداً عن الخشوع والتدبر لآيات الله، وقد ضرب لقلوبهم مثلاً في القرآن بالحجارة قسوة وصلابة، وأنها ليست تربة صالحة للخشوع والإيمان.
لهذا وغيره كانت الآية محط أنظار المؤمنين جميعاً برهم وفاجرهم، صالحهم وطالحهم، ومهوى أفئدتهم، كل يأخذ منها على قدر حاله، خوفاً وهلعاً، أو حذراً وهضماً للنفس… فما تأملها العاصي إلا تاب وأناب، ولا الطائع إلا صفا قلبه وذاب.
لذا كان ابن عمر إذا تلا الآية بكى ثم قال: بلى يا رب، بلى يا رب.
وعن أبي بكر (رضي الله عنه): إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديداً، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب.
وغرض أبي بكر واضح، من مدح أولئك القوم بما كان عليه صحابة رسول الله من الخشوع ورقة القلب مبدأ البعثة.
وفيه هضم لنفسه، وتواضعه الجم (رضي الله عنه)، وهو مسلك الصالحين وأرباب التقى، كلما ارتقوا في مدارج الكمال، شعروا بتقصيرهم في جنب مولاهم، وهو كقوله (رضي الله عنه): أقيلوني فلست بخيركم.
لقد نقلت الآية أقواماً من دائرة العصيان إلى دائرة الطاعة ومن حال حياة اللهو إلى حياة الزهد، لما أصغوا إليها بأفئدتهم وتلقوها بأرواحهم وكان منهم الفضيل بن عياض، الذي نقلته الآية من قاطع طريق إلى سالك طريق، بل إلى مرشد دال على الله عن علم وتجربة.
لقد قيل في حقه: ما رأيت في العلماء أهيب من مالك، ولا أورع من الفضيل.