شبهات لغوية حول القرآن [17].. بقلم أ.د/ إبراهيم عوض
المفكر الإسلامي وأستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب- جامعة عين شمس. (تم النشر بإذن من سيادته
الشبهة السابعة عشرة:
في قوله تعالى في الآية 15 من “يوسف” عن إخوته عليه السلام وعزمهم على التخلص منه حتى يخلو لهم وجه أبيهم: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يؤكد الأخرق أن في الجملة خطأ لأنها تخلو من جواب “لولا”، وإنه “لو حُذفت الواو التي قبل “أوحينا” لاستقام المعنى” (ص 110) .
ولابد من التنبيه أولاً إلى أن القرآن يَكْثُر فيه الحذف، فهم سمة من سمات لغته أفاض فيها علماء القرآن والنحو والبلاغة، وهذا الحذف موجود أيضاً بكثرة في الشعر العربي القديم أيام كان العرب يستعملون لغتهم بتلقائية الواثق القابض على عنانها يصرَفها حسبما تَشاء مراميه البلاغية. فهذه الآية إذن ليست بِدْعاً في القرآن، وهذا إن قلنا بالحذف، وهو مجرد رأي من الآراء التي وُجًهَتْ بها الآية. والحذف هنا، عند من يقول به، غَرَضُه التشويق وإثارة تطلع القارئ للتفكير في المراد من الآية.
ومازلنا حتى الآن نقول في أحادثنا مثلاً: “آه لمّا جاء أبوه ورأى ما صنع! “، فهل سمع أحدنا قطّ من يعترض على مثل هذا الأسلوب ويتهمه بالنقص؟ ومن شواهد هذا الاستعمال في الشعر العربي القديم قول امرئ القيس عن إحدى مغامراته العاطفية مع حبيبته:
فلما أجزَنْا ساحة الحيّ وانتحى … بنا بطن خَبْتٍ ذي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
حيث انتهت جملة “لَمَّا” مع نهاية البيت دون أن يظهر لها جواب. وبهذا الحذف يريد امرؤ القيس إثارة خيال السامع لينطلق فيتصور على هواه كل ما يمكن أن يكون قد وقع بينه وبين حبيبته.
وفي الكتاب المقدس عن العبد الفاضي نقرأ مثلاً: “وندم بنو إسرائيل على بنيامين أخواتهم”، و”بنيامين” (المبدل منه) فَرْد، والبدل “أخواتهم” جَمْع، فهل نملأ الدنيا صراخاً بأن هذا خطأ كما فعل جاهلنا؟ إننا نقول إن ههنا حذفاً، وتقدير الكلام: “وندم بنو إسرائيل على بني بنيامين”. ومن الحذف أيضاً في لذلك الكتاب: “إني مررت بحقل الكسلان ويكَرْم الإنسان الفاقد اللُّبّ، فإذا الشوك قد علاه، والعضاه غطَّى وجهه، وجدار حجارته قد أنهدم. فنظرت فوعيتُ في قلبي، ورأيت فاستفدت تأديباً. قليل من الوسن. قليل من الرقاد. طيّ اليدين قليلاً للرقاد”، فهذه ثلاث جمل غير كاملة. أفنقول إنها خطأ؟ أبداً. وتقدير العبارة هو: “يكفي جداً قليل من الوسن” أو “قليل من الوسن كافٍ جداً” … وهكذا. وفي ذلك الكتاب أيضاً نقرأ العبارة التالية: “ألم يعلم جميع فاعلي الإثم الذين يأكلون شعبي أكْلَ الخبز ولم يَدْعوا الرب؟ هناك جزعوا جزعاًَ حيث ليس جزع لأن الله في جيل الصدّيقين”. وعبثاً نحاول أ، نحد في النص مفعول “ألم يعلم….؟ “. وقد تركه المتحدث عمداً ليثير خيال السامعين ويهوّل لهم ما يريد تحذيرهم منه. والمراد مثلاً: “ألم يعلموا ما ينتظرهم من جزع ورعب وعقاب لا يُرَدً؟ “.
على أن هناك من يقول إنه لا حذف في الآية القرآنية وإن جواب “لَمَّا” موجود في قوله سبحانه: {قَالُوا يَا أَبَانَا … } بعدها بآيتين على النحو التالي: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ … } . وثم توجيهات أخرى يُرْجعَ إليها في كتب التفسير وإعراب القرآن وما إليها.