هل العربية لغة صعبة؟ [2] بقلم أ.د/ عبد التواب الأكرت
أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم السابق بكلية اللغة العربية بالقاهرة ومقرر اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر
فالقواعد اللغوية النحوية وضعها العلماء للعربية قبل دخول الفلسفة إلى العلوم العربية، وما قبل القرن الرابع الهجري لم يكن للفلسفة مكان في الدراسات العربية، وكانت العلل عند الخليل وسيبويه واقعية لا تتعدى النصوص العربية، والدليل على ذلك ما رواه الزجاجي في كتابه: الإيضاح في علل النحو فقال:
“وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد_ رحمه الله_ سُئل عن العلل التي يعتل بها في النحو فقيل له: عن العرب أخذتها أما اخترعتها من نفسي؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها. وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللت منه، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمسته. وإن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارا محكمة البناء، عجيبة النظم والأقسام؛ وقد صحت عنه حكمة بانيها، بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على كل شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا. سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك العلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك. فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكره بالمعاول فليأت بها”.([1])
وقد روى ذلك الجاحظ عن الخليل فقال: “لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم مالا يحتاج إليه”.([2])
فالخليل أثبت أنه من أوائل علماء العربية الذين تكلموا في توجيه القواعد اللغوية، ولكن توجيهه كان مراعيا لأحوال العرب واتجاهاتهم، وهذه هي الطريقة المثلى للتعليل والاستنباط. ثم تدرجت العلل على أيدي علماء اللغة، كما حدث بين أنصار المدارس النحوية البصرية والكوفية والبغدادية، وأصبح كل حكم نحوي يعلل بعلل، وتوسعوا في العلل، ثم زادت العلل عندما اتصلت الفلسفة بالدراسة النحوية، وأخذت العلل تتشعب وتتفرع، ويعد كتاب الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم الزجاجي (ت 337هـ) أول كتاب أُلِّفَ في العلل.
وممن تناول موضوع العلل ابن جني (ت 392هـ) في كتابه الخصائص، وعقد لها أبوابا تحدث عنها في الأبواب التالية: باب في ذكر علل العربية أكلامية أم فقهية، وباب في تخصيص العلل، وباب في ذكر الفرق بين العلة الموجبة والعلة المجوَّزة، وباب في تعارض العلل، وباب في أن العلة إذا لم تتعدى لم تصح، وباب في العلة وعلة العلة وغير ذلك من الأبواب.([3])
وقد قسَّم ابن جني العلل إلى العلل الأوائل،([4]) والعلل الثواني،([5]) والعلل الثوالث،([6]) وممن تأثر بهذه الفلسفة وناهضها ابن مضاء الأندلسي في كتابه: الرد على النحاة. وهذه التعليلات الفلسفية في القواعد النحوية تؤدي إلى التنافر من تعلم النحو، والعربية تأبى ذلك كله، وقد أجاب ابن جني عن كثرة هذه العلل في باب الرد على من اعتقد فساد علل النحويين، فقال: “اعلم أن هذا الموضع هو الذي يتعسف بأكثر من ترى، وذلك أنه لا يَعرف أعراض القوم، فترى أن ما أورده من العلة ضعيف واهن ساقط غير متعال… ووصف ابن جني هذه العلل والاعتراضات بأنها شاقة على العلماء، فقال: ومثل ذلك يُتعب مع هذه الطائفة، لاسيما إذا كان السائل عنه من يلزم الصبر عليه، ولو بدء الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوس وذا اللغو، ألا ترى أنه لو عرف أن الفاعل عند أهل العربية ليس كلِّ من كان فاعلا في المعنى، وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرته بعد الفعل، وأسندت ونسبت ذلك الفعل إلى ذلك الاسم، وأن الفعل الواجب وغير الواجب في ذلك سواء، لسقط صداع هذا المضعوف السؤال.”([7])
فكل هذه العلل لا تفيد اللغة، ولا تفيد الإنسان أي فائدة، بل هي تنفر الإنسان من دراسة النحو، فالضرورة تدعو إلى تيسير مناهج النحو بصورة ترغب الدارس فيه، وتقريب هذه القواعد وتنقيتها من الشوائب والعلل الزائدة، حتى يكون فيها يُسر للناشئين الدارسين، وهذا العمل يقوم به المتخصصون في المجامع اللغوية وأساتذة الجامعات المتخصصون.([8])
ويدرس النحو على صورته القديمة، ويقف على فلسفته القديمة كما روي عن الخليل وتلميذه سيبويه، لكن العلل النحوية والتطورات التي طرأت في العصور التالية في دراسة النحو، ودخول الفلسفة في علم النحو وغيره من العلوم الأخرى، فهذا من قبيل التطور، واكتمال نضج العقلية العربية.
ودعا الأستاذ عباس حسن إلى تنقية النحو من العلل الثواني والثوالث وما يليها، فلا نستبقي من العلل إلا الأوائل، وما يشبهها مما لا يدعو إلى تأويل أو تمحل، أو تعدد في الوجوه الإعرابية، تاركين ما عداها من العلل التي أعلت النحو والمشتغلين بها، وأضاعت الجهد والوقت في عبث لفظي لا غناء فيه، بل فيه كل العناء، وكان الواجب توجيهها إلى إصلاح نحوي مفيد وعمل مثمر.
ولكن هذه الآراء التي تدعو إلى إلغاء العلل يعتريها الضعف والتكلف في كثير من الأحوال، ولا تطابق مقصود العرب؛ لأن علل النحو كالوردة تشم ولا تدعك، فقد قال الشيخ الخضري معللا على مسألة إعراب الفعل المضارع، وعلة ذلك وهي مشابهة الاسم حيث قال: فالعمدة في هذه الأحكام السماع، وهذه حِكَمٌ تلتمس بعد الوقوع لا تحتمل هذا البحث الدقيق، والذي تميل إليه النفس أن تستثمر هذه العلل بأنواعها للمتخصصين، أما المبتدؤون فتعطى لهم العلل الأوائل، ويقدم لهم من العلل الثواني والثوالث الواضح منها مع التدرج في مراحل التعليم، ليدركوا قيمة القواعد اللغوية، ويتبين لها مفهومها جليا.([9])
إن اللذين يحاولون هدم اللغة العربية الفصحى تحت دعوى التجديد والتطوير هم في الحقيقة يعملون على عزل الناس عزلا كاملا عن لغتهم ثم عن القرآن الكريم، وعن كل تراثنا العربي من شعر ونثر وحضارة ودراسات إسلامية، فهم يريدون أن يصلوا إلى هدفهم وهو هدم ثوابت الدين.
فالذين رموا العربية بالصعوبة والتعقيد، شكوا مثلا من وجود كلمات في العربية يختلف رسمها في الكتابة عن النطق بها، كألف التأنيث المكسور حين تكتب ياء في مثل: يمنى، وذِكرى، وكالهمزة المفتوحة نطقا، تكتب على ياء بعد الكسرة، وعلى واو بعد الضمة في مثل: مئات، وزؤام، ولكن كيف ذلك، وقد تعلمنا اللغات الأوروبية الحية، فلم يشق علينا أن يختلف نطق ألفاظ كثيرة فيها عن طريقة رسمها، فلم نلعن عُقَد القواعد اللغوية في الألسنة الأوروبية، ولم نسمع أن أهل هذه اللغات فكروا في أن يستبعدوا من الكتب المدرسية ما شذ عن القواعد القياسية للإملاء عندهم.
كما شكوا من صعوبة النسق اللغوي الذي يضبط معاني الألفاظ في الجملة، بحركات الإعراب، وما عرفنا لغة في الدنيا استغنت عن قواعد لنحوها وتصرفها وأدائها، يتعلمها أبناء اللغة في مدارسهم، ويتعلموا الغرباء عنها. ([10])
فالعربية ليست صعبة في نحوها، فهي أسهل كثيرا من اللغات اللاتينية وما تفرع منها من لغات بعضها شديد الصعوبة، كالألمانية والفرنسية، وبعضها أسهل كالإنجليزية، بل هناك لغات أصعب بكثير من العربية، فاللغة الصينية أصعب لغات العالم، وذلك لتعدد أشكالها وأنماطها التي يصعب فهمها، وهي اللغة الرسمية في جمهورية الصين وفي تايوان وسنغافورة، ويتحدث بها خُمس سكان العالم، وتتضمن اللغة الصينية مجموعة من اللغات، وأشهرها: المندرينية، ويزيد من صعوبتها اختلاف أصواتها، وطرق نطق الحرف الواحد، كما أنها تحتوي على العديد من الكلمات التي قد تبدو متشابهة، ولكنها تحمل معاني مختلفة تماما، بالإضافة إلى أن اللغة الصينية غنية بالتعابير اللغوية.
فليست العربية صعبة في التزامها بالإعراب، ولا يُعد قيدا لها بقدر ما هو وسيلة من وسائل البيان فيها، وليست العربية وحدها هي اللغة المُعْرَبة، بل شاركها في الإعراب الألمانية، والروسية، والحبشية، والعبرية، ولكن توفَّر للعربية سمات وخصائص لم تتوفر لغيرها من اللغات الأخرى.
=======================
[1])) الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص 65- 66.
[2])) الحيوان للجاحظ 1/37-38.
[3])) انظر: الخصائص 1/49، 165، 167، 170، 174، 175، 182، 184، 185، 187، 195.
[4])) الخصائص 1/89.
[5])) السابق 1/174.
[6])) السابق 1/174، وراجع علم اللغة بين القديم والحديث د. عبد الغفار هلال ص 341- 349.
[7])) الخصائص 1/185، 186.
[8])) انظر: تجديد النحو. د. شوقي ضيف.
[9])) انظر: علم اللغة د. عبد الغفار هلال ص 353-355 بتصرف.
[10])) لغتنا والحياة. د. بنت الشاطئ ص 195 بتصرف.