الحضور المصري في المعاجم العربية بقلم الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات وعضو اتحاد كتاب مصر
حضرت لفظة (مِصْر) في معاجمنا العربية القديمة والحديثة، منذ معجم العين للخليل بن أحمد (ت170هـ) ومرورًا بمعاجم العصور الوسطى: القاموس واللسان والتاج، وانتهاءً بمعاجم العصر الحديث مثل ذخائر مجمع اللغة العربية بالقاهرة: الوجيز، والوسيط، والكبير وغيرها، وهو حضور بارز: مكانًا وإنسانًا، وتاريخًا وحضارةً وآثارًا، وهو حضور متنوع في أفكاره، على النحو الآتي:
فلفظة (مصر) من الجذر اللغوي (م/ص/ر)، الذي بيَّن العلامة ابن فارس(ت395هـ) دلالاته الأساسية في معجمه الفذ مقاييس اللغة([1]) بقوله: “الميم والصاد والراء أصلٌ صحيح له ثلاثة معان. الأوّل جنسٌ من الحَلْب، والثاني تحديدٌ في شيء، والثالث عُضوٌ من الأعضاء؛ فالمعنى الأوّل: المَصْر: الحَلْب بأطراف الأصابع،..” ومنه يؤخذ معنى العطاء الذي تعرف به مصرنا دينيًّا وتاريخيًّا وحديثًا؛ فهي خزانة الله في الأرض، وهي كنانة الله تعالى.
والمعنى الثاني: المِصْر، وهو الحدُّ؛ يقال إنَّ أهل هَجَرَ يكتُبون في شُروطهم: ”اشترى فلانٌ الدَّارَ بمُصورها”، أي حدودها، وكذا أهل مصر كما في اللسان. قال عديّ بن زيد العبادي:
وجاعل الشَّمس مِصرًا لا خفاء به بين النَّهار وبين اللَّيل قد فَصَلا
و(المِصر) الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ أَو بَين الْأَرْضين (ج) مُصَور. والمِصْر: كلُّ كُورةٍ يقسم فيها الفَيء والصَّدَقات، أو الكورة الْكَبِيرَة تُقَام فِيهَا الدّور والأسواق والمدارس وَغَيرهَا من الْمرَافِق الْعَامَّة،، والوعاء، ومادة حَمْرَاء يصْبغ بهَا “. ومنه يؤخذ دلالة التحضر والتمدن؛ فكل مكان متحضر يطلق عليه العرب في لغتهم الأولى لفظ (مصر).
والثالث المَصِير، وهو المِعَى، والجمع مُصران ثم مصارين. ومنه يؤخذ معنى التجميع والتوحيد والربط الذي تقوم عليه مصرنا في علاقات أطيافها الداخلية، وفي علاقاتها بجيرانها وبالقوى العظمى في كل زمان.
كما بيِّن المعجميون القدامى الدلالات اللغوية الجزئية لهذا الجذر، قال ابن الأعرابيّ(ت231هـ): المِصْر: الوعاء، ويقال للمِعَى المصير، وجمعه مصران ومصارين. وقال الإمام الأزهري(ت370هـ): مصر هي المدينة المعروفة، تذكر وتؤنث، عن ابن السراج” . كما أشاروا إلى أنها وضعت عند العرب قديمًا للدلالة على المكان المتحضر، قالوا: ” والمصر: واحد الأمصار . والمصر: الكورة، والجمع أمصار. ومصروا الموضع: جعلوه مصرًا ، وتمصَّر المكان: صار مصرًا . ومصر: مدينة بعينها سميت بذلك لتمصُّرِها، وعن اشتقاق مصر قالوا:” قَالَ اللّيث: المِصْرُ فِي كَلَام الْعَرَب: كلّ كُورةٍ. تُقام فِيهَا الحُدود ويُقسَم فِيهَا الفَيْءُ والصدقاتُ من غير مُؤَامَرَة الْخَلِيفَة، وَكَانَ عمرُ -رَضِي الله عَنهُ- مَصّر الأمصارَ مِنْهَا البَصْرة والكوفة. والأمصار عِنْد الْعَرَب تِلْكَ. قَالَ: ومصر: الكورة الْمَعْرُوفَة لَا تصرف. و قال الجوهري (ت393 هـ): فلان مصر الأمصار كما يقال مدن المدن وحمر مصار. ومصاري: جمع مصري، عن كراع. ومصْر: مفرد أمصار ومُصُور: مدينة، أو منطقة كبيرة تُقام فيها الدُّورُ والأسواقُ والمدارسُ وغيرها من المرافق العامَّة. كما أشاروا المعجميون إلى سبب تسميتها؛ قال الزبيدي:” ومِصْرُ: الكَسرُ فِيهَا أَشهر، فَلَا يُتَوَهَّم فِيهَا غَيره، كَمَا قَالَه شَيخنَا، قلتُ: والعامَّة تفتحها، هِيَ الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة الْآن، سُمِّيَتْ بذلك لتَمَصُّرها أَي تَمَدُّنها، في معجم الصحاح:” وقد زعموا أن الذي بناها إنما هو المصر بن نوح – عليه السلام -، فسُمِّيت بِهِ. قال ابن سيده(ت458هـ): ولا أدري كيف ذاك، ولست على ثقة منه! وَفِي الرَّوضِ: إنَّها سُمِّيَت باسم بانيها، وَنقل شَيخنَا عَن الجاحِظ فِي تَعْلِيل تَسْمِيَتهَا: لِمَصيرِ النَّاس إِلَيْهَا. وَهُوَ لَا يَخْلُو عَن نظرٍ([2]).
وقال ابن دحية(ت668هـ):”وهي عندنا مشتقة من: مَصَرْت الشاةَ إذا أخذت من ضرعها اللبن؛ فسُمِّيت: مصر؛ لكثرة ما فيها من الخير مما ليس في غيرها، فلا يخلو ساكنها من خير يدرّ عليه منها كالشاة التي ينتفع بلبنها وصوفها وولادتها([3]).
كما تحدث النحاة والمعجميون عن لفظة مصر صرفيًّا ولغويًّا وإعرابيًّا في القرآن الكريم؛ فقد جاء في معجم العين:” وقد مَصَّرَ عُمَرُ [بن الخطّاب] سبعةَ أمصارٍ منها: البصرةُ والكوفةُ، فالأمصارُ عند العَرَبِ تلكَ. وقوله تعالى: { اهبطوا مصرًا} من الأمصار، ولذلك نوَّنه، ولو أراد مِصرَ الكورةَ بعَينِها كما نَوَّنَ، لأنَ الاسْمَ المؤنَّثَ في المعرفةِ لا يُجرَى. ومِصْرُ هي اليَومَ كورةٌ معروفةٌ بعَينِها لا تُصْرَفُ([4])“. وقال سيبويه في قوله تعالى: {اهبطوا مصرًا}، قال: بلغنا أنه يريد مصر بعينها. وفي التهذيب: في قوله: { اهبطوا مصرًا} قَالَ أَبُو إِسْحَاق: الْأَكْثَر فِي الْقِرَاءَة إثباتُ الْألف وَفِيه وَجْهَان جائزان: يرادُ بهَا مصرٌ من الْأَمْصَار؛ لأَنهم كَانُوا فِي تِيهٍ، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ مصرَ بعيْنِها؛ فَجعل مِصْرَ اسْما للبلد فصَرفَ، لِأَنَّهُ مذكَّر سُمِيَ بِهِ مذكّر. وَمن قَرَأَ: (مصرَ) بِغَيْر ألفٍ أَرَادَ مِصْرَ بعينِها؛ كَمَا قَالَ: {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُءَامِنِينَ} (يُوسُف: 99) وَلم يُصرَف؛ لِأَنَّهُ اسْم الْمَدِينَة فَهُوَ مذكَّر سمّيَ بِهِ مؤنث. وقال الحافظ أبو الخطاب مجد الدين عمر بن دحية(ت668هـ): ومصر أخصب بلاد الله وسماها الله بمصر، وهي هذه دون غيرها بإجماع القرّاء على ترك صرفها، وهي اسم لا ينصرف في معرفة لأنه اسم مذكر سميت به هذه المدينة، واجتمع فيه التأنيث والتعريف فمنعاه الصرف([5]).
وقد جاءت أقوال مختلفة في سبب تسمية مصر بـ «أرض الكنانة». منها أنها الأرض «المكنونة» وهي التي صانها الله وحفظها في قلب الصحراء، وقد جاء في المعاجم: “الكِنُّ والكِنَّةُ والكِنَانُ: وِقاء كل شيءٍ وسِتْرُه([6]). والنظرية الأخرى هي أن التسمية مستمدة من أثر شريف لفظه:”مصر كنانة الله في أرضه، ما طلبها عدو إلا أهلكه الله([7])“.
أما هذا الأصل المصري الشريف النبيل(القبط) فهو حاضر عند المعجميين العرب القدامى منذ أولهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت170هـ) في كتابه العين وانتهاء بأكبرهم الزبيدي(ت1205هـ) في معجمه تاج العروس؛ فقد قرروا أن (القبط) لفظة عربية من الجذر اللغوي(ق/ب/ط) الدائر حول معنى كلي واحد هو الجمع. قال ابن دريد: القبط: جمعُك الشيءَ بيدِكَ. يقال: قبطتُه أقبِطُه قَبْطًا([8]). و(القِبْطُ، بالكَسْرِ): جِيلٌ بمِصْرَ. وَفِي الصّحاحِ: القِبْطُ: أَهْلُ مِصْرَ، وهم بُنْكُها، بالضَّمِّ، أَي أَصلُها وخَالِصُها. والنسبةُ إليهم قِبْطِي، واخْتلِفَ فِي نَسَبِ القِبْط، فقِيلَ: هُوَ القِبْطُ بنُ حَامِ بنِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السّلامُ، وذَكَر صاحبُ الشَّجَرَةِ أنَّ مِصْرَايِم ابْن حامٍ أَعْقَبَ من لوذيم، وأَنَّ لوذيم أَعْقَب قِبْطَ مِصْرَ بالصَّعِيدِ، وذَكَرَ أَبو هاشِمٍ أَحْمَدُ بنُ جَعْفَر العَبّاسيُّ الصّالِحِيُّ النَّسّابَةُ قِبْطَ مِصْرَ فِي كِتابِه، فَقَالَ: هم وَلَدُ قِبْط ابْن مِصْرَ بنِ قُوطِ بنِ حامٍ. و(الثياب القُبْطية) لعلها منسوبة إلى هؤلاء، إلا أن القاف ضمت للفرق. والنسبة قبطي وقبطية، ويجمع على قباطي. و(القبطية): ثياب بيض رقاق من كتان، تتخذ بمصر. وقد يضم، لأنهم يغيرون في النسبة، كما قالوا: سهلى ودهرى. قال زهير:
لَيَأْتِينَّكَ مِنِّي منطقٌ قذَعٌ باقٍ كما دنَّسَ القُبْطيةَ الودَكُ
وقالَ اللَّيْثُ: لمّا أُلْزِمَتِ الثِّيَابُ هَذَا الاسْمَ غَيَّرُوا اللّفظَ؛ فالإِنْسانُ قِبْطِيٌّ، بالكَسْرِ، والثَّوْبُ قُبْطِيٌّ، بالضَّمِّ ([9]).
وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقبط خيرًا، في حديث نبوي شريف صحيح، صريح الوصية! وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-: “قَبَطَة مصرَ أكرمُ الأعاجمِ كلِّها، وأسمحُهم يدًا، وأفضلُهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة، وبقريش خاصة([10])“. وهذه الدلالة الحضارية للأصل المصري الشريف النبيل نجدها عند المعجميين العرب منذ الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين…
… يتبع
===================
[1])) معجم مقاييس اللغة 5/329.
[2])) تهذيب اللغة12/129، الصحاح:تاج اللغة وصحاح العربية2/817، (م/ص/ر)، تاج العروس(م/ص/ر).
[3])) راجع العين، والتهذيب، والصحاح، واللسان(م/ص/ر)، وتاج العروس3/43.
[4])) العين 7/123.
[5])) تاج العروس3/43، وخطط المقريزي المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار1/34..
[6])) حضارة مصر أرض الكنانة ص19، سليمان حزين، طبع دار الشروق سنة1991م،العين، باب الكاف والنون5/281، تاج العروس(ك/ن/ن)36/63..
[7])) أثر شريف معناه صحيح، راجع المقاصد الحسنة في الأحاديث المشترة1/609، والدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة1/178.
[8])) المقاييس 5/50.
[9])) العين 5/109، و الصحاح (ق/ب/ط)3/1150.
[10]))أثر شريف ورد في فتوح مصر والمغرب1/24، والنجوم الزاهرة1/29،وحسن المحاضرة1/18.