فاعلية الصوت اللغوي في صنع المعنى الشعري.. دراسة أسلوبية [الحلقة السادسة] بقلم أ.د/ محمد عيد محمد عبد الله
أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية- جامعة الأزهر
أولاً : التبادل الصوتي بين الصوامت :
أ-فاء الكلمة :
ترد الكلمة متفقة في الحركات والسكنات والأصوات الصامتة باستثناء الصوت الأول الذي يمثل فاء الكلمة فيختلف المعنى وأمثلة ذلك من الشعر ما يلي : قال رؤبة :
لا يأخذ التأفيك والتحزى
فينا ولا قول العِدِى ذو الأَزِّ(62).
استعمل الشاعر كلمة (الأز) من (أزز) بالهمزة بدلاً من (الهز) من (هـ زز) بالهاء، آثر أن تكون فاء الكلمة بالهمزة لأنه يدرك أن الأز أقوى في المعنى من الهز، فكلاهما يحمل معنى : التحريك إلا أن الأز : تحريك للنفوس بشدة، والهز : “تحريك لما لا بال له كأغصان الأشجار وغيرها”(63) مما يقبل التحريك بسهولة ويسر، وعلق ابن منظور ذلك بقوله : “لا يجوز أن يكون من التحريك ومن التهيج، وفي حديث الأشتر : كان الذي أزَّ أم المؤمنين على الخروج ابن الزبير، أي : هو الذي حركها وأزعجها وحملها على الخروج، وقال الحربي : الأّزُّ أن تحمل إنساناً على أمر بحيلةٍ ورفق حتى يفعله، وفي رواية : “أن طلحة والزبير – رضى الله عنهما – أزَّا عائشة حتى خرجت”(64).
وفي القرآن الكريم قوله تعالى : )أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا( [مريم:83] أي : “تزعجهم وتقلقهم”(65)، والهز: “تحريك الشئ كما تهتز القناة فتضطرب … وفي التنزيل العزيز : )وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ( [مريم:25] أي حركي”(66).
فتحريك النفوس يحتاج لجهد وحيل ومن ثم ناسبة الأز بالهمزة التي تتسم بالشدة والصعوبة في النطق خلافاً لتحريك جذوع الأشجار وأغصانها إذ قد يكون ذلك عن طريق الهواء مناسبة الهز بالهاء الرخوة التي تتسم بالضعف، وعليه فالشاعر كان محقاً في استعمال (الأز) لأنه أراد تحريك النفوس فالهمزة وحدة صوتية في مقابل الهاء لها أثر واضح في تشكيل معنى البيت.
ب-عين الكلمة :
ترد الكلمة متفقة في الفاء واللام مختلفة في العين فيكون لها أثر في صنع المعنى الذي قصده الشاعر، من ذلك قول الحطيئة مستعطفاً أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يفك حبسه :
ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ \ زُغْب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ(67).
استعمل الشاعر “زُغْب الحواصل” بالغين ليدلل على أن أطفاله صغارٌ كالأفراخ التي لم ينبت لها سوى شعيرات صفر دقيقة ومازالوا ضعافا يحتاجون لعنايته ورعايته، و”الزغَب : الشعيرات الصفر على ريش الفرخ، وقيل هو صغار الشعر والريش ولينه …” (68)، لكن إذا استبدلنا الغين من (زُغْب) بالعين وقلنا (زُعْب) وأبقينا على الزاي والباء كما هما لتغير المعنى تماماً لأن الغين وحده صوتية مستقلة من الأصوات الرخوة المجهورة، والعين وحدة صوتية مستقلة من الأصوات المتوسطة المجهورة، كل منهما له أثره في صنع المعنى، ويصير المعنى مع (زعب الحواصل) بالعين : ممتلئة حواصلهم بالطعام، لأن زَعَب بمعنى : “ملأ”(69)، وهذا على خلاف ما أراده الشاعر في البيت، لذا كان لصوت الغين أثر واضح في تشكيل المعنى المقصود في البيت وإبرازه بصورة صحيحة لأنه يصف أبناءه بالضعف وقلة الحيلة ويحتاجون من يطعمهم ويقوم على أمرهم وهذا لا يتأتي إلا باستعمال (زغب) بالغين لا (زعب) بالعين.