لمحاتٌ من التوجيه اللغوي للقراءات السبع في سورة الصف
بقلم أ.د/ عصام فاروق
هذه لمحات سريعة لتوجيه القراءات السبع الواردة في سورة الصف، مع محاولة ربطها بالمستوى اللغوي الذي تنتمي إليه:
- قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( [الآية: 6]
قرأ حمزة والكسائي ) سَاحِرٌ ( بألف بعد السين. وقرأ ) سِحْرٌ ( بغير ألف بعد السين. ([1])
التوجيه:
من قرأ) سِحْرٌ ( فهو مصدر، أشاروا به إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في زعمهم، والمعنى: إن الذي جئتَ به هو السحر، وقد يؤيد هذه القراءة السياق الجزئي السابق في كلمة (بالبينات)، التي يرونها سحرًا. ” ويجوز أن تكون الإشارة إلى النبي، وفي الكلام تقدير حذف مضاف، أي: إن هذا إلا ذو سحر، فيكون مثل القراءة بالألف.” ([2])
ومن قرأ )سَاحِرٌ ( فهو اسم فاعل، أشاروا به إلى النبي نفسه – في نظرهم- والمعنى على ذلك:
نرى من جاء بهذا ساحر، وقد يؤيد هذه القراءة أيضًا السياق الجزئي السابق في ضمير الفاعل المستتر في قوله (جاءهم)، العائد إلى النبي الموصوف عندهم بهذا الوصف.
” ويجوز أن يكون (ساحر) بمعنى سحر؛ لأن الاسم قد يقع موضع المصدر، كقولهم: عائذا بالله من شرِّها، أي: عياذًا، فتكون القراءة بالألف كالقراءة بغير ألف. وكان أبو عمرو يقول: (إذا كان بعده (مبين) فهو سحر، وإذا كان بعده (عليم) فهو ساحر)، والمبين يصلح للسحر وللساحر، فلا حجة له في ذلك. فأما (عليم) فلا يكون إلا للساحر، فهو صحيح.” ([3])
والمعنى قريب في القراءتين فإذا وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بالساحر، فما جاء به- في اعتقادهم- سحر، وإذا وصفوا ما جاء به بالسحر، فهو عندهم ساحر.
وينتمي هذا الاختلاف إلى (المستوي الصرفي) على وجه التحديد (الاختلاف بين المصدر واسم الفاعل)
- قال تعالى: ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( [الآية: 8]
قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ) مُتِمُّ ( بغير تنوين، و ) نُورِهِ ( بالخفض.
وقرأ الباقون ) مُتِمٌّ ( بالتنوين، و) نُورَهِ ( بالنصب. ([4])
التوجيه:
من قرأ )مُتِمٌّ نُورَهِ( فعلى أن (مُتِمّ) اسم فاعل من (أتم)، يدل على الحال والاستقبال، وإذا كان كذلك فالأصل فيه أن يعمل عمل فعله، فيرفع فاعلًا- وهو هنا ضمير مستتر تقديره: هو، يعود على الله عز وجل، وينصب مفعولا وهو هنا (نورَه)، وتقدير الكلام: ويتم اللهُ نورَه.
ومن قرأ) مُتِمُّ نُورِهِ( فعلى أن (مُتِمّ) مضاف، ونوره مضاف إليه مجرور بالكسرة، ويبدو أنه يدل على المضي، لا على الحال والاستقبال.
وإلى مثل هذا الاختلاف في المعنى ذهب ابْنُ السَّرَّاجِ في قوله: “تَقولُ: هذا ضاربٌ زيدًا، إذا أردتَ بضاربٍ ما أنتَ فيه، أوِ المُسْتَقْبَلَ كمَعْنَى الفِعْلِ المضارِع له، فإذا قلتَ هذا ضاربُ زيدٍ، تُرِيدُ به مَعْنَى المُضِيِّ فهو بمَعْنَى غلامِ زَيْدٍ..لم يَجُزْ فيه إلا هذا؛ يَعْنِي: الإضافةَ والخَفْضَ.” ([5])
والاختلاف هنا ينتمي إلى المستوى النحوي: (الإضافة والتنوين).
- قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( [الآية: 10]
قرأ ابن عامر ) تُنَجِّيكُمْ (بتشديد الجيم. وقرأ الباقون ) تُنْجِيكُمْ( بتخفيف الجيم. ([6])
التوجيه:
من قرأ) تُنْجِيكُمْ( فهو من (أنجى يُنجي) الثلاثي المزيد بحرف عن طريق الهمزة، ومثله في القرآن قوله: ) فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ([العنكبوت من الآية: 24].
ومن قرأ) تُنَجِّيكُمْ (فهو من (نَجَّى يُنَجِّي)، الثلاثي المزيد بحرف عن طريق تضعيف العين، وفي الشديد معنى التكثير، ومثله في القرآن قوله تعالى ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ([فصلت: 18].
وقال أبو منصور الأزهري: ” هما لغتان، نجَّيته وأنجيته بمعنى واحد”([7]) ولا أراني أذهب إلى ذلك؛ لأن زيادة المبنى توازيها زيادةٌ في المعنى، إلا إذا كان مقصوده المعنى العام للفعلين.
والاختلاف ينتمي إلى (المستوى الصرفي)، وتحديدًا اختلاف (الأبنية الصرفية/ ما بين الأفعال المزيدة).
- قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( [الآية: 14]
قرأ الكوفيون وابن عامر ) كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ( بغير تنوين ولا لام.
وقرأ الباقون ) كُونُوا أَنْصَارًا لِلَّهِ ( بالتنوين وجر اسم الله بلام. ([8])
التوجيه:
من قرأ ) كُونُوا أَنْصَارَ لِلَّهِ ( فعلى معنى أنهم أنصار لله بالفعل لكنه يريد منهم أن يداوموا على ذلك، وهو مثل قوله تعالى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ([النساء من الآية: 136] فأمرهم بالاستمرار على إيمانهم والمحافظة عليه. ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عبد الله بن مسعود: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أنتم أَنْصَارُ اللَّهِ) ([9])
ومن قرأ ) كُونُوا أَنْصَارًا اللَّهِ ( فهو أمر لهم بأن يكونوا كذلك، وفي ذلك دلالة على أنهم قبل الأمر لم يكونوا كذلك.
([1]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (171)
([4]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (171)
([5]) الأصول في النحو (1/125)، لابن السراج، تحقيق: د. عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، ط ثالثة 1417ه- 1996م.
([6]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (171)
([8]) ينظر: التيسير في القراءات السبع (171)
([9]) ينظر: مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع (156) لابن خالويه، مكتبة المتنبي- القاهرة.