حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

من علوم العربية: علم المعاني بقلم أ.د/ عبد الرحمن طعمة

عضو هيئة التدريس بكلية الآداب - جامعة القاهرة

مما رُوري عن أبي عمرو كلثوم العتابي (ت 220 هـ) أنّ قيم الكلام العقل، وزينته الصواب، وحليته الإعراب، ورائضه اللسان، وجسمه القريحة، وروحه المعاني. واستدل “أبو هلال العسكري”  (توفي 395هـــ، 1005م) على أنّ الفصاحة تتضمن اللفظ، والبلاغة تتناول المعنى، وضرب لذلك مثالا بالببغاء؛ فالببغاء يُسمّى فصيحًا ولا يُسمّى بليغًا، لأنه يُقِيمُ الحروف ولكنه لا يعرف- من جهة الذهن والعرفان- القصدَ إلى المعاني التي تؤديها الحروف والكلمات، وتلك ميزة انفرد بها أفراد النوع الإنسانيّ، في حدود ما نعرف.

علم المعاني هو أحد العلوم الأساسية الثلاثة للبلاغة القديمة: المعاني والبيان والبديع، ويُطلق عليه (النحو العالي). ويُعدّ عبد القاهر الجرجاني (توفي 471 هـ) شيخ البلاغيين العرب وواضع القواعد البلاغية النظامية، فقد أسّس نظرية علم المعاني في كتابه (دلائل الإعجاز)، كما أرسى أسس علم البيان في كتابه (أسرار البلاغة). وكان “عبد الله بن المعتز” قد سبقه بوضع أُسس علم البديع([1]).

لقد استطاع “عبد القاهر الجرجاني” أنْ يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كلّ القواعد البلاغية المُمكنة، ثم حوّلها إلى قوانين تجريدية، ثم انماز هو- بعبقريته الفذة- بوضع (نظرية النَّظْم) الشهيرة، التي فسّر بها أُسس التعلق والتراكب وإعجاز القرآن الكريم. واتجه العلماء من بعده إلى تلخيص آرائه وشرحها، وعلى رأسهم “الفخر الرازي” (توفي 606 هـــ) في كتابه: (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز)؛ إذ اختصر فيه الدلائل والأسرار، وأشار فيه إلى أنه قد جمع متفرقات الكلم في الضوابط العقلية الخاصة بالمعاني والمقاصد. وكان من المعاصرين له العلامة الأشهر “أبو يعقوب السكاكي” (توفي 626 هــــ) صاحب الموسوعة الكبرى
(مفتاح العلوم)، التي قسّمها إلى أربعة أقسام: الصرف والنحو والبلاغة والشعر، ودرس البلاغة على أُسس منطقية جعلت منها عِلمًا له قواعده وأسسه ونظرياته. لكن النقاد يرون أنه أساء من حيث أراد أن يُحسن؛ فقد اتسمت البلاغة من خلال تلك القوانين بالجمود، إذ أصبحت عِلمًا، لكنها فشلت في تكوين بلغاء.

يُعرّف السكاكي علم المعاني بقوله إنه “تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليُحترزَ بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره”. وواضح صعوبة أسلوبه وتجريده المنطقيّ، ولذا كثر شُرّاحه وملخصوه كما سيأتي. وأهم مباحث علم المعاني كما أوردها السكاكي:

– الخبر والطلب والإنشاء.

– الإسناد الخبري باختلاف السامع، من حيث خلوُّ الذهنِ أو الشكُّ أو الإنكارُ.

– الإسناد وبيان أحوال المسند إليه، من حيث الحذف والذكر والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير والإطلاق والتخصيص … إلخ.

– الفصل والوصل.

– الفعل ومتعلقاته.

– الإيجاز والإطناب.

– القصر والحصر وأنواعهما.

– مباحث الطلب: التمني، والاستفهام، والأمر، والنهي، والنداء، وأدوات كلّ نوع ووظائفها.

– الأغراض الدلالية للطلب: التعجب والإنكار والاستبطاء والنفي … إلخ.

* ولأهمية كتاب السكاكي في علم المعاني خصوصًا فقد شرحه ولخّصه علماء كثيرون، أبرزهم:

– قطب الدين الشيرازي (ت 710 هـ): (مفتاح المفتاح).

– السيد الشريف الجرجاني (ت 816 هـ): إذ شرح القسم الثالث من المفتاح.

– ابن كمال باشا (ت 910 هـ): (شرح المفتاح).

* ومن أهم الملخصات:

بدر الدين بن مالك (ت 668 هـ): (المصباح في اختصار المفتاح).

– أبو عبد الله القزويني (ت 739 هـ): (تلخيص المفتاح). وهذا الكتاب نال شهرة واسعة
مثل (المفتاح)، فقد شرحه القزويني نفسه في كتاب (إيضاح التلخيص)، واستدرك فيه ما فاته من (المفتاح)،
وزاد عليه من الدلائل والأسرار لعبد القاهر. وشرحه أيضًا “بهاء الدين السبكي” (ت 773 هـ):
(عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح). و”محمد بن ناظر الجيش” (ت 778 هـ): (شرح تلخيص القزويني). و”سعد الدين التفتازاني” (ت 792هـ): (الشرح الكبير) و(الشرح الصغير) للتلخيص.
و”ابن يعقوب المغربي” (ت 1110 هـ): (مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح).

وعمدة هذا الجهد التراثيّ ومركزه هو كتاب (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) لحازم القرطاجنيّ
(ت 684 هـ)؛ إذ جمع فيه أُسس المنطق والفلسفة والنقد والأدب، وجعل من المعاني علمًا عرفانيًّا Cognitive Science ذا أصول تراثية رصينة، نستكشف اليوم مكنوناتها وفرائدها في اللسانيات المعاصرة.

=============================

المراجع والإحالات:

– عبد العزيز عتيق: في البلاغة العربية، علم المعاني، دار النهضة العربية، بيروت، 2009.

– محمد محمد أبو موسى: دلالات التراكيب، دراسة بلاغية، مكتبة وهبة، لقاهرة، 1987.

وليد قصاب: علم المعاني، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2012.

=============================

([1]) كان أديبًا وشاعرًا وناقدًا فحلا، أُطلق عليه خليفة اليوم والليلة، إذ آلت إليه الخلافة العباسية، ولُقب بالمرتضى بالله، ولم يلبث يومًا واحدًا حتى هجم عليه غلمان المقتدر وقتلوه عام 296 هــــ، 909م .قال أبو بكر الصولي (توفي 335 هـــــ)- وهو العارف بشعر المحدثين، الجامع لدواوينهم -: “اجتمعتُ مع جماعة من الشعراء عند أبي العباس عبد الله بن المعتز، وكان يتحقق بعلم البديع تحققًا ينصر دعواه فيه لسانُ مُذاكراته، فلم يبق مسلك من مسالك الشعراء إلا سلك بنا شِعْبًا من شِعابِه، وأوردنا أحسن ما قيل فيه». وبعد أنْ أورد مجموعة من الاستعارات الجيدة من شعر لبيد وذي الرمة وجرير، أنهى الصولي قوله هكذا: “… فما أحد من الجماعة انصرف من ذلك المجلس إلا وقد غمره من بحر أبي العباس ما غاض عنه مَعينه، ولم ينهض حتى زوّدنا من بِرِّه ولُطفه نهاية ما اتسعت له حاله”. الحصري، أبو إسحاق إبراهيم بن علي،
(ت 453هـ(: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق زكي مبارك، دار الجيل، لبنان، طـ 4، د.ت، 4/1047، 1049.   

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu