حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

الفروق الدلالية عند ابن القيم [4] الحمد والثناء .. بقلم أ.د/ أحمد علي ربيع

أستاذ أصول اللغة ورئيس القسم بكلية الدراسات العليا ووكيل كلية اللغة العربية بالقاهرة السابق

بين ابن القيم – سابقاً – أن الإخبار عن محاسن الغير يتوزع إلى ثلاثة أقسام باعتبارات ثلاثة, منها: اعتبار الخبر نفسه، حيث ينشأ بنسبة التقسيم إلى الثناء والحمد, فإذا كان الخبر عن المحاسن متكرراً فهو الثناء, وذلك لأنه مأخوذ من الثّني وهو العطف, ورد الشيء بعضه على بعض, ومنه ثنية الثوب ومنه التثنية في الاسم, فالمُثْنِى مُكًرِّر لمحاسن من يثني عليه مرة بعد مرة.  أما المجد فالإخبار عن المحاسن دون تكرير[1].

فأساس هذا التفريق في المعنى ما دلت عليه مادة “ث ن ى” حيث حصرت معنى الثناء في التكرار المفاد من الثّنْي, وهو العطف أورد الشيء بعضه على بعض, فالملمح الدلالي الفارق بين اللفظين هو التكرار أو عدمه, وإلى هذا أشار كثير من العلماء[2].

غير أنه ألمح إلى أن الثناء أخص من الحمد, إذا قال: “وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد, وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد, كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به”[3].

ونقل الكفوي عن جماعة من العلماء أن الثناء أعم من المجد، وأن ذلك هو الرأي المشهور بين الجمهور، فالثناء هو الإتيان بما يشعر التعظيم مطلقاً, سواءً كان باللسان أو بالجنان أو بالأركان, وسواءً كان في مقابلة شيء أولاً, فيشمل الحمد والشكر والمدح, وهو المشهور بين الجمهور, والمفهوم من الكشاف وغيره”[4].

وكلمة الثناء في أصل وضعها كانت تدل على ما يوصف به الإنسان من خير أو شر, ثم غلب عليها ما يمدح به الإنسان، يقول الخليل: “والثناء: تعمدك لشيء تثني عليه بحسن أو قبيح”[5]، وقال صاحب اللسان: “ما تصف به الإنسان من مدح أو ذم”[6]. وقال الكفوي: إن دلالته على الشر دلالة مجازية على ضرب من التأويل والمشاكلة والاستعارة التهكمية[7]، غير أنه قد غلب عليه فى النهاية الثناء والمدح بخير فقط.

وبعد, فهذه ألفاظ خمسة وردت عند ابن القيم يجمعها حقل دلا ليٌّ واحد حرص على أن يفرق بينها في المعنى من خلال ذكره لبعض الملامح الدلالية الفارقة بين كل منها, كما أحسن توزيعها من خلال المتعلقات التي يتعلق بها كل لفظ من ألفاظها, وهو بذلك يدرك أن المعنى العام الجامع لها موجود، وهو الإخبار عن محاسن الغير، غير أن كل واحد من الألفاظ يختص بسياق, وينفرد باشتقاق، ويصلح لموضع لا يصلح له غيره, ولذلك كان يلجأ مرة للسياق، ومرة للدلالة العامة للمادة, وثالثة للاشتقاق, ورابعة لدلالة الصيغة، إلى غير ذلك من الملامح التي تميز باستنباطها, وحسن فهمها عمن سبقه من العلماء.

من ذلك قوله عن الحمد والمدح والثناء والمجد: “فنذكر تقسيماً جامعاً لهذه المعاني الأربعة, أعني الحمد والمدح والثناء والمجد, فنقول: الإخبار عن محاسن الغير له ثلاثة اعتبارات, اعتبار من حيث المخبر به, واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخبر, واعتبار من حيث حال المخبر, فمن حيث الاعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد, فإن المخبر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها, أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها، فإن كان من الأول فهو المجد, وإن كان الثاني فهو الحمد, وهذا لأن لفظ م ج د في لغتهم يدور على معنى الاتساع والكثرة …, وحيث اعتبار الخبر نفسه ينشأ التقسيم إلى الثناء والحمد, فإن الخبر عن المحاسن إما متكرر أو لا, فإن تكرر فهو الثناء, وإن لم يتكرر فهو الحمد, فإن الثناء مأخوذ من الثني, وهو العطف, ورد الشيء بعضه على بعض … ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأ التقسيم إلى المدح والحمد, فإن المخبر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا, فإن اقترن به الحب فهو الحمد, وإلا فهو المدح”[8].

ولم يكتف ابن القيم بذلك, بل أكده من خلال دراسة تطبيقية يبرز فيها دور السياق من خلال سورة الفاتحة في تحديد موطن الحمد والثناء والمجد, فيقول: “فَحَصِّلْ هذه الأقسام وميزها ثم تأمل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول العبد: الحمد لله ربّ العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم, قال أثنى عَلَيّ عبدي, لأنه كرر حمده فإذا قال: مالك يوم الدين, قال مَجّدني عبدي, فإنه وصفه بالملك والعظمة والجلال”[9].

وإذا كان بعض العلماء قد قال بالترادف وبعضهم قال بالعموم والخصوص بين هذه الألفاظ, أو حتى من وافق ابن القيم وقال بالتباين فإن ذلك ناشئ عن اختلاف النظرة, أو المنهج.

لقد رصد الكفوي ذلك وحلله بقوله: “واختلف في الحمد والثناء والشكر والمدح, هل هي ألفاظ متباينة, أو مترادفة, أو بينها عموم وخصوص مطلق, أو من وجه؟ فمن قال بالتباين نظر إلى ما انفرد به كل واحد منها من الجهة, ومن قال بالترادف نظر إلى جهة اتحادها, واستعمال كل واحد منها في مكان الآخر؛ ولهذا ترى أهل اللغة يفسرون هذه الألفاظ بعضها ببعض, ومن قال بالاجتماع والافتراق, فقد نظر إلى الجهتين معاً, وهو قول بعض أهل اللغة, وعليه جمهور الأدباء, والأصل في الألفاظ الدالة على المعاني التباين والاتحاد، والاشتراك خلاف الأصل”[10].

============================

[1] بدائع الفوائد 2/95

[2] مقاييس اللغة 1/391 والمفردات ص 89 والكليات للكفوي 324

[3] السابق 2/93

[4] الكليات ص 324

[5] العين 8/244

[6] اللسان “ثنى” والقاموس المحيط ص 1116

[7] الكليات ص 324

[8] بدائع الفوائد 2/94 , 95

[9] السابق 2/95

[10] الكليات ص 365 ، 366

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu