وراء كل عظيم كلمة (3) استثمار الكلمة عند العقلاء.. بقلم أ.د/ رفعت علي محمد
أستاذ البلاغة والنقد وعميد كلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
إذا كان أثر الكلمة إنما يتوقف على القائل والمتلقي – كما أبنا في المقال السابق – فإن على المتلقي أن يحسِن استثمار الكلمة، ويكرم وفادتها، ويحلها من نفسه المحل الكريم الأليق، بأن يتجاوز بها دائرة السماع إلى العمل والتطبيق.
فالعاقل يحسن استثمار كل كلمة، ويحولها إلى طاقة دافعة للسمو والكمال، وبوصلة موجهة للخير والجمال، بغض النظر عن قائلها.
فقد تجيء هذه الكلمة المحركة من حدث صغير، أو شخص قليل العلم، أو ضعيف العقل، ومتى كان أثر الإنسان مرتبطاً بشيء من ذلك، أليست الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو بها أولى ؟!
فهذا الإمام أحمد بن حنبل الذي وقف أمام إفساد عقول الأمة وضد إضلال الناس في عقيدتهم، وزيغهم في كتاب ربهم، لقد كان وراء ثباته كلمة من شخص وصفه الإمام أحمد بقوله: (ما رأيت أحداً على حداثة سنه، وقلة علمه، أقوم بأمر الله من محمد بن نوح) .. لقد قال للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى به، وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله).
لقد كانت كلمة حدث السن، قليل العلم، هذا، سبباً في ثبات الإمام وانتصار الحق على الضلال، وصفاء العقيدة على الزيغ والبهتان، وإعلاء مبدأ الصمود والثبات، لاسيما ممن يترقب الناس أحوالهم، ويقتدون بآرائهم، ممن لا يقبل منهم ما يقبل من غيرهم، إذ هم موضع القدوة، ومحط النظر.
ولأرباب السلوك في هذا المجال النصيب الأوفى، فربما سمعوا الكلمة من مطرب لاهٍ، أو شاعر ماجن، فإذا مرآة القوم الصافية صفاء أنفسهم، لا تعكس منها إلا الخير والجمال، ولا ترى فيها إلا ما يدعو للسمو والكمال، فهم قوم شغلوا أنفسهم بالخالق لا بالخلق، ورزقوا من الفهم والصفاء ما شغلهم بالقول عن القائل، وبالهدف والغاية دون الوسائل والأسباب.
إنهم رأوا في هذه الأقوال رسائل موجهة لهم دون غيرهم، فلا يتكلم متكلم إلا أفادوا من كلامه، ولا يطير طائر إلا استفادوا من طيرانه، وذاك مشهور في تراجم القوم وسيرهم.
وقد شهرت عند هؤلاء هذه الأبيات للشاعر أبي نواس:
إذا العشرون من شعبان ولت | فواصل شرب ليلك بالنهار | |
ولا تشرب بأقداح صغار | فإن الوقت جلَّ عند الصغار |
فصارت عندهم موعظة موجعة صادقة في الإكثار من العمل الصالح، والتشمير للتزود للمعاد، لا سيما عند توقع قرب الأجل، وخشية فوات الأمل.
ولو بحثت في مراد القائل لما وجدت شيئاً من هذا، بل ما دل الشعر إلا على نقيض فهم القوم، الذين سموا بنظرتهم لمثل تلك الأقوال، وانشغلوا بهدف سام نبيل دون التفات إلى سواه، إذا المتلفت – عندهم – لا يصل.
لقد بلغ من درجة استثمار هؤلاء القوم للكلمة واتخاذها درجاً في مصاعد الرقي والسمو الإنساني أنهم كانوا لا يفهمون من الكلمة معناها الظاهر الذي قد يفهمه غيرهم، ثم هم لا يأنفون من الإفادة من الكلمة مهما كان درجة قائلها من العلم أو المنزلة أو الفضل، فالمهم هو في قبولها واستثمارها لا في قائلها.
فإمام من أعلام القوم كالفضيل بن عياض لا يأنف أن يذكر أنه تعلم الصبر من صبي صغير في قصة طريفة ذكرها، ثم بكى حتى ابتلت لحيته بالدموع، وقال: سبحان الله لو صبر العبد على باب الله عز وجل لفتح الله له. وهو المغزى من القصة.
وقد كان لسلفنا الصالح من ذلك حظ وافر، فصحابي جليل، وعالم نحرير كابن عمر لا يأنف أن يورد كلمة عقلها من راع في بعض شعاب المدينة.
أورد ابن الجوزي عن نافع قال: خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، فوضعوا سفرة، فمر بهم راع، فقال له عبد الله: هلمّ يا راعي: فأصب من هذه السفرة فقال: إني صائم، فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حره، وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال … فقال الراعي: ابادر أيامي الخالية، فعجب ابن عمر، وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها، ونطعمك من لحمها، ما تفطر عليه، ونعطيك ثمنها ؟ قال: إنها ليسـت لي، نها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك، إن قلت: أكلها الذئب ؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله ؟
قال: فلم يزل ابن عمر يقول: قال الراعي: فأين الله فما عدا أن قدم المدينة، فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهب له الغنم.
إن كلمة الراعي الصادقة التي استهوت الصحابي الجليل وأخذت بمجامع فؤاده، فلا زال يكررها حتى قدم المدينة، إذعاناً لجلالها، وتمثلاً لمعناها.. تلخص مقام الإحسان الذي هو غاية الإيمان، وكمال الإسلام، وقد ورد في حديث جبريل المشهور.
لقد عاش الراعي مقام الإحسان، وتشرب قلبه مقام المراقبة، فكان لكلمته المعبرة (فأين الله) أثر بالغ في نفس ابن عمر، فما كان إلا أن كافأه بالعتق من العبودية، لما وجده يمثل الحرية في أسمى معانيها، وما الحرية إلا التخلص من أسر الشهوات وقيد النزوات.
ثم وهبه الغنم التي كان يرعاها لما وجده يمثل الزهد في أسمى صوره، ويعيش العفة في أرقى مظاهرها.
أرأيت كيف كانوا يستقبلون الكلمة ويحسنون توظيفها، ارتقاء بسلوكهم وبعثاً لهممهم، وسمواً بأرواحهم، وهضماً لأنفسهم !!