حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

ظاهرة التضمين العروضي في البلاغة العربية… بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

لا يعنى استقلال البيت الانعزال عن محتوى القصيدة، بحيث يصبح غايةً في ذاته، بل هو بداية لغاية كبرى هي النص، ولا غايات بدون بدايات، وعند الإبداع يصبح هذا الجزء ضمن كلٍّ لا ينفك عنه، وتصبح القصيدة وحدة واحدة.

وأمَّا ما كان من نصِّ أبي هلال العسكري الذي اتخذه المحدثون ذريعةً لِلنَّيْلِ من البلاغة العربية فقد تتبعته الدراسة في مظانِّه، وتبيَّن أنّ مصطلح (التضمين) بمفهومه العروضي يعدُّ أحد عيوب القافية العروضية، وهذا المعنى هو ما وجدناه عند  ثعلب والمبرد وابن قتيبة والمرزباني وابن الأثير وابن رشيق…على نحوما سبق بيانه، غير أنَّهم أثنوا عليه في بعض المواضع، وهذا ما لم يذكره المحدثون، وإنما تعمدوا ذكر نصوص القبح والمعابة، بل الأعجب أنَّ البيت الذي  استشهد به الدكتور/ صلاح فضل للنيل من البلاغة العربية مَدَحَهُ المبرِّدُ وأثنى عليه، وهو بيت مجنون بني عامر، وقال في شأنه:” لم يبلغ أحد قبله هذا المقدار”  واستملح ما كان على شاكلته، كما استحسن المرزباني أبيات امرئ القيس المُضمَّنة، واستحسن ابن الأثير “التضمين” ولم يره عيبًا، وكيف يكون معيبًا وهو واقع في كلام الله؟ واستحسن ابن رشيق هذا النوع من التعلق والترابط ما دام في قصة أو حكاية، وإليك هذه النصوص تفصيلا:

ولنبدأ بكلام المبرد المشهود له بالرسوخ والإتقان حتى قال عنه ابن جني:إنه جبل من العلم، حيث قضي بأن بيت مجنون بني عامر- البيت الذي اتخذه المحدثون شاهدًا على النظرة الجزئية – من جيد التشبيهات ومليحها،ولم يكن هناك أفضل منه في المعنى قبله، فيقول: وقد قال الشعراء قبله فلم يبلغوا هذا المقدار”([1]).

ويبدو أنَّ الصورة التشبيهية قد نالت من حس المبرد ووجدانه ممَّا جعله يمتدحها رغم معرفته بطبيعة العرب في تشبيهاتها وميلها إلى الإيجاز والاختصار، وذمِّها لـ” التضمين” بمفهومه العروضي، وذلك حيث يقول:”والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماءً”([2]).

فهل يعدُّ هذا الثناء من المبرد على تلك التشبيهات كافيًا في الرد على ما رُميتْ به البلاغة العربية من المعالجة الجزئية أم تكون عبارته مقابلةً لعبارة أبي هلال العسكري فيرتفع بهما الاستدلالُ إيجابًا وسلبًا، أم هل يحتاج الأمر إلى التصريح بأنَّ معرفة المحدثين بنظام القصيدة العربية أشبه بمعرفة بائع الثوب دون حائكه، وفرق بين من استخلص خيوط النسج وحاكها وميَّز جيدها من رديئها، فأخذ منها وترك، وألَّف بينها في اتِّساق وانسجام، وعايش نسجها وتفاصيلها حتى ابتدعها على غير نظام – وهو حال العرب في معرفتهم بقصائدهم- وبين بائع الثوب الذي لا يعرف شيئًا عن ثوبه غير صورته النهائية التي بين يديه، بل إنَّ بائع الثوب ممًا يحمد له أنَّه يروِّج لبضاعته ويُثني عليها، بينما لم يبلغ بعض المحدثين تلك المنزلة، وإلَّا لما كانوا صدى صوتٍ لثقافة تخالف ثقافتنا ولغاتٍ تباين لغتنا وأنظمةٍ لغويةٍ تغاير نظامنا ومناهج أدبية تفارق منهجنا.

وفي السياق ذاته يُثني المرزباني في ” الموشح” على أبيات امرئ القيس التي دخلها التضمين في قافيتها قائلاً:” وأبيات امرئ القيس في وصف الليل أبيات اشتمل الإحسان عليها، ولاح الحذق فيها، وبان الطبع بها، فما فيها معاب إلّا من جهة واحدة عند أمراء الكلام والحذّاق بنقد الشعر وتمييزه. ولولا خوفي من ظنّ بعضهم أنّي أغفلت ذلك ما ذكرته، والعيب قوله بعد البيت الذي ذكرته:

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه … وأردف أعجازًا وناء بكلكل

                                ألا أيّها الليل الطويل …

فلم يشرح قوله: “فقلت له” ما أراد إلّا في البيت الثاني، فصار مضافًا إليه متعلّقا به؛ وهذاعيب عندهم”([3]).

وكأنَّ التضمين ليس بعيب عنده، وإنما ذكره جريًا على عادة الأدباء، كيف وهو يشهد للأبيات التي وقع فيها ” التضمين” بغاية الإحسان والحذق ولين الطبع؟! ويؤيد ذلك قوله في سياق آخر معلقًا على نفس الأبيات…قال: وعيب على امرئ القيس قوله:

فقلت له لما تمطّى بصلبه … وأردف أعجازًا وناء بكلكل

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي … بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

قال: فانسلخ البيت الأول بوصف الليل من غير أن يذكر ما قال، وجعله متعلقًا بما بعده، وذلك معيب عندهم. ([4])

وعلى ذلك فالتضمين نوعان عند المرزباني؛ أحدهما معيب، والآخر: جائز إذا أجاد الشاعر استخدامه، وهذا نصُّ ما قاله:”حدثني علي بن هارون، قال: التضمين أحد عيوب القوافي الخمسة، وليس يكون فيه أقبح من قول النابغة الذبياني:

وهم وردوا الجفار على تميم … وهم أصحاب يوم عكاظ إني

شهدت لهم مواطن صالحات … أتينهم بحسن الودّ مني

فأما قول امرئ القيس:

وتعرف فيه من أبيه شمائلا … ومن خاله ومن يزيد ومن حجر

سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا … ونائل ذا، إذا صحا وإذا سكر

 فليس ذا بمعيب عندهم، وإن كان مضمنًا؛ لأنَّ التضمين لم يحلل قافية البيت الأول، مثل قوله: “إني شهدت لهم”. وقد يجوز أن يوقف على البيت الأول من بيتي امرئ القيس؛ وهذا عند نقّاد الشعر يسمى الاقتضاء: أن يكون في الأول اقتضاء للثاني، وفي الثاني افتقار إلى الأول”([5]).

بينما يرى ابن الأثير أنَّ التعلق والتعانق بين أبيات القصيدة لا يُعدَّ عيبًا؛ لأنَّه إن كان سبب عيبه أن يعلّق البيت الأوَّل على الثاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبًا؛ إذ لا فرقَ بين البيتين من الشعر في تعلق أحدهما بالآخر وبين الفقرتين من الكلام المنثور في تعلق إحداهما بالأخرى؛ لأن الشعر هو: كل لفظ موزون مقفّى دلّ على معنى، والكلام المسجوع هو: كل لفظ مقفى دل على معنى؛ فالفرق بينهما يقع في الوزن لا غير.

والفقر المسجوعة التي يرتبط بعضها ببعض قد وردت في القرآن الكريم في مواضع منه؛ فمن ذلك قوله – عزَّ وجلَّ – في سورة الصافات: (فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ)([6])، فهذه الفقر الثلاث الأخيرة مرتبط بعضها ببعض؛ فلا تفهم كل واحدة منهن إلا بالتي تليها، وهذا كالأبيات الشعرية في ارتباط بعضها ببعض، ولو كان عيبًا لما ورد في كتاب الله – عزَّ وجلَّ – وكذلك ورد قوله– تعالى – في سورة الصافات أيضًا: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ )([7])، فالآيتان الأوليان لا تفهم إحداهما إلا بالأخرى، وهكذا ورد قوله – عزَّ وجلَّ – في سورة الشعراء:(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)([8]). فهذه ثلاث آيات لا تفهم الأولى ولا الثانية إلا بالثالثة، ألا ترى أن الأولى والثانية في معرض استفهام يفتقر إلى جواب، والجواب هو في الثالثة….وقد استعملته العرب كثيرًا، وورد في شعر فحول شعرائهم؛ فمن ذلك قول امرئ القيس:

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه … وأردف أعجازًا وناء بكلكل:

ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي … بصبح وما الإصباح منك بأمثل”([9])

في حين يرى ابن رشيق: أنَّه كلما كانت اللفظة المتعلقة بالبيت الثاني بعيدةً من القافية كان أسهلَ عيبًا من التضمين…وربما حالت بين بيتي التضمين أبياتٌ كثيرةٌ بقدر ما يتسع الكلام وينبسط الشاعر في المعاني، ولا يضره ذلك إذا أجاد”([10]).

وعند التحقيق نجد”التضمين” أمرًا متعلقًا بوحدة البيت من حيث الوزن والقافية، وكلها أمورٌ في صميم التماسك والترابط، ولكنه تماسكٌ وترابطٌ من نوع خاص، تطابق النغم المتمثل في الوزن، وتلاحم أجزاء البيت المتمثل في القافية، ولو كان التضمين معيبًا على الإطلاق لكان ترابط الجملة بالجملة التي تليها في أمر النثر كذلك، وهذا ما لم يقل به أحد من البلاغيين، بل إنَّهم التزموا مبدأ الوحدة والترابط في النثر ودعوا إلى تعلق الجمل والفقرات بعضها ببعض، ومن ثم رأوا أن النثر مبنيٌّ على الوحدة، دون الشعر الذي يبنى على وحدة البيت لا لشيء سوى مراعاة الوزن والقافية.

ومن هنا فرَّق المرزوقي بين مبنى النثر ومبنى الشعر، وهو اختلافٌ يتعلق فيما نحن بصدده؛ حيث جوز في النثر ما لم يجوزه في الشعر مراعاةً للوزن والقافية، فرأى أن النثر” واضح المنهج، سهل المعنى، متسع البـاع، واسع النطاق، تدلّ لوائحه على حقائقه، وظواهره على بواطنه([11])، بخلاف مبنى الشعر، فهو على”العكس من جميع ذلك؛ لأنه مبنيٌّ على أوزان مقدرة، وحدود مقسمة، وقوافٍ يساق ما قبلها إليها مهيأة، وعلى أن يقوم كلّ بيت بنفسه غير مفتقر إلى غيره إلا ما يكون مضمنًا بأخيه، وهو عيب فيه، فلما كان مداه لا يمتدُّ بأكثرَ من عروضه وضربه، وكلاهما قليل، وكان الشاعر يعمل قصيدته بيتًا بيتًا، وكـلّ بيـت يتقاضاه بالاتِّحاد، وجب أن يكون الفضل في أكثر الأحوال في المعنى([12])،حتى وصل إلى إقرار حكم عام وهو ” كلّ ما يحمد في الترسل ويختار، يذم في الشعر ويرفض.

ويفهم من هذا أن وحدة البيت أساسٌ في القصيدة لكونها أوزانًا مقدرة، وحدودًا مقسمة، وقوافيَ يساق ما قبلها إليها مهيأة، بخلاف النثر الذي لا يتجزأ، فهو كلام متسع البـاع، واسع النطاق، تدلّ لوائحه على حقائقه، وظواهره على بواطنه، على حد تعبير المرزباني السابق.

ومن هنا ظهر في الشعر ما يُعرف بـ” التصريع ” و” الترصيع”  و” التوشيح”  و” الإرصاد” و” الإيغال”  و” التصدير… وغير ذلك مما له تعلقٌ بالوزن والقافية، وليس من غايتنا- ولا غاية اللسانيات النصية الاعتراض على هذين اللونين من المعرفة (الوزن والقافية) وارتباطهما بالفن الشعري، وكما يقول الدكتور بدوي طبانة: “فإن النظرة العلمية تميل إلى تعدد جبهات المعرفة, وتخصيص كل جبهة بلون خاص من ألوانها، ولكن الذي يمكن أن يقال هو: أن هذين العلمين ينظران في الصحة من حيث استقامة النغم في الوزن, ووحدة القافية, وهما لونان من ألوان التناسب والتطابق, فيدخلان فيما نحن فيه من البحث في جمالات المطابقة”([13]).

يتبع…

=====================================================

أ.د صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد

ووكيل كلية العلوم الإسلامية

https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ

https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5

=======================================================

[1]–   الكامل في اللغة والأدب- المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)- المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم- الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة- الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ – 1997م، الكامل ص 29 الجزء الثالث.

[2]–  الكامل ص 110 الجزء الثالث.

[3]– الموشح ص30،31 بتصرف.

[4]ـ-  الموشح ص30-34 بتصرف.

[5]ـ-  الموشح ص41.

[6]ـ-  سورة الصافات الآيات من 51-53.

[7]ـ-  سورة الصافات الآيات من 162-264.

[8]ـ-  سورة الشعراء الآيات من 206-208.

[9]ــ  المثل السائر- الجزء الثاني- ص 323، 324.

[10]ـ-  الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه- المؤلف: أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)- المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد-الناشر: دار الجيل-الطبعة: الخامسة، 1401 هـ – 1981 م، ص 280-286.

[11] – ينظر شرح ديوان الحماسة – تأليف أبي علي المرزوقي- تحقيق: غريد الشيخ- الجزء الأول – ص17.

[12] – ينظر شرح ديوان الحماسة – تأليف أبي علي المرزوقي- تحقيق غريد الشيخ- الجزء الأول – ص16، ما بعدها.

[13]ـ- البيان العربي” دراسة في تطور الفكرة العربية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكبرى” دكتور/ بدوي طبانة- الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية- الطبعة السادسةص420، 421.

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu