فتاة القطار [قصة قصيرة] بقلم أ.د/ عبد الحميد بدران
أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية اللغة العربية بالمنصورة.
نظرتْ إلىّ مرات، وكلما وقعت عيني على عينها خجلت، وأخذت تقلب صفحات كتابها الذي تحمله، لم أكن على يقين ما إذا كان الكتاب مفتوحا بطريقة طبيعية أم معكوسة، كل ما أنا واثق منه أن هناك ما شدها إلىّ وشدني إليها رغم حداثة سنها، تأكدت من ذلك لما مازحت زملائي الذين يجلسون في كرسي القطار القابع في مؤخرة العربة الخامسة وضحكنا بصوت عال، فوجدتها تبتسم، وعيني لا تزال تتابع الفتى والفتاة الذين انزويا بجوار الباب المغلق للعربة، في عزلة شبه تامة عن كل ركاب القطار، يتحدثان بالعيون حديثا لا ينقطع، وكأنهما يخشيان أن يمرّ الوقت سريعا، دون أن تخترق نظرات أحدهما كيان الآخر.
حملقت الفتاة فيّ مرات، كانت فيها تطيل النظر دون أن يصافح الجفن أخاه، وكأنها تحولت إلى تمثال أنثوي يتنفس، ثم عادت إلى الكراسة التي معها، تخط خطوطا أو تكتب كلمات، ثم تطيل التفكير، وكأنها تحاول استذكار أشياء من الماضي السحيق، لكن زميلتها لا تتركها تهنأ كثيرا بهذا العمق، فقد لاحظتها وهي تحاول خطف الكراسة من بين يديها، وما زلت أجيل النظر باتجاه العصفورين الذين يقبعان بجوار الباب المغلق، ولا يكادان يحسان حركة القطار من حولهما، وكل ما كنت أخشاه أن تحين لحظة نزولهما فأخسر مشهدا عظيما من مشاهد الرومانسية الحالمة، الذي فيه تحتضن الفتاة كتبها وترفع هامتها قليلا، لتستطيع عينها ملاحقة وجه الزميل الذي لا يبرح النظر إليها إلا ليتأكد من اسم المحطة التي توقف بها القطار.
مضت ساعة لم أدر كيف مرّت، واضطرت الفتاة التي تحملق فيّ إلى الوقوف لتجلس شيخا مسنا رأى راحته في الوقوف إلى جوارها، فأسندت ظهرها إلى شباك العربة، ولم أعد أدري على وجه اليقين، هل كانت تنظر إلىّ أم إلى النافذة التي توالي عرض مشاهد الطبيعة الخضراء في سرعة مذهلة، لكنها ما زالت تنظر وتكتب، وسرعان ما زاغ البصر ليوقع على مشهد وداع من روائع رومنسيات السينما، حيث كانت الفتاة الواقفة منذ ساعة ونصف في اتجاه الباب، تنقل الخطى المستعصية، وهي تودع فتاها بنظراتها الحارة، وكل ما كانا يأملانه في تلك اللحظة أن يغض الركاب أبصارهم حتى يرسل كل منهما لصاحبه قبلة في الهواء لعلها تعانق خده لحظة ما .
التفت الفتى إلى الفتاة الواقفة أخيرا، كأنه تذكرها في تلك اللحظة، ولم يمهلني الفتى قليلا حتى أتكهن إلى أي المدارس ينتمي هو وزميلاته، فقد أشار إليها وأشارت إليه، فأيقنت أن الجميع طلاب في مدرسة الصم والبكم التي تبعد خطوات عن سور كليتي، ثم تحدث الفتي مع الفتاتين حديثا إشاريا راقيا، عرفت من خلاله أنهم سوف ينزلون في المحطة القادمة، وفي خفة تحسد عليها نزعت الفتاة الجالسة كراسة زميلتها، وفتحتها على الصفحة التي كانت تكتب فيها، ثم تعمدت أن تريني رسم زميلتها، وزميلتها تحاول إخفاء الرسم بكل ما أوتيت من قوة، وقد أشرب وجهها الطفولي الصافي حمرة الحياء، وأنا أحاول أن أنفي عن نفسي شبهة أن أكون المقصود بنظرها إلى الشباك كل هذا الوقت .
كانت الصورة الرصاصية الأنيقة وجها لشاب لم أنتبه أنه يشبهني، إلا بعد أن نقرت تلك الفتاة من الخارج نقرتين على الشباك المجاور لي، ثم أشارت إلىّ مرة ، وإلى الصورة مرّات، فأيقنت ساعتها أن صديقتها التي ركزت معي قرابة ساعتين كانت ترسمني .