مما استعمله العوام في ضد معناه الفصيح [الحلقة الثانية] بقلم أ.د/ هاشم عبد الرحيم
أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بأسيوط- جامعة الأزهر
التطور الدلالي (رقي الدلالة)
1 ـ البَدْلَة:
المعنى الفصيح :
أصل “البَدْلَة” في اللغة البِذْلة، “والبِذْلَةُ من الثِّياب: مَا يُلْبَسُ، فَلَا يُصان”([1]) “يُقالُ: ثَوْبٌ بِذْلةٌ: لما يُبْتَذَلُ من الثِّيابِ”([2]) فالبِذْلَةُ والمِبْذَلَةُ: ما يُمْتَهَنُ من الثياب، يقال: جاءنا فلان في مَباذِلِهِ، أي: في ثياب بِذْلَتِهِ. وابْتِذالُ الثوب وغيرهِ: امتهانُه. والتَبَذُّلُ: تركُ التصاون.([3])
مأخوذة من الابْتِذال: ضِدُّ الصِّيانَةِ.([4]) ومن هذا المعنى ما جاء “فِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: “فَخَرَجَ مُتَبَذِّلًا مُتَخَضّعًا”([5]). التَّبَذُّل: ترك التزيُّن والتَّهيُّؤ بِالْهَيْئَةِ الحسَنة الْجَمِيلَةِ عَلَى جِهة التَّوَاضُعِ.”([6])
فالبِذْلة على هذا: الثوبُ الخَلَقُ، والمبتذِل: لابسُه.([7])
المعنى العامي:
تعني كلمة “البدلة” الآن عند العامة: الثياب الجدد للرجال التي تتخذ للخروج، وتتألف في الغالب من ثلاث قطع: السترة والصدار والبنطلون، هذا في الشتاء، وفى الصيف من قطعتين: السترة والبنطلون.([8])
وهي ثوب راقٍ، يتزيا به وُجهاء الناس وذوو المراكز المرموقة في الدولة، وهي أنواع شتى تتباين بحسب الوظيفة، منها بَدْلَة السَّهرة: ثوب خاصّ يُلبس في السهرات. وبَدْلَة الشُّغل: ثوب يَلْبسه العامل في أثناء العمل. وبَدْلَة تدريب: ثوب خاصّ بالتدريب. بَدْلَة عسكريّة: ثوب خاصّ بالجيش.([9]) وتسمعهم يقولون: لبستُ بَدْلَةً من ثيابي.([10]) والذهن ينصرف -عند إطلاقها- إلى بدلة العمل.
استنتاج وتعليق:
هنا يمكن القول بأن “البَدْلة” -البِذْلة قديمًا- تطلق على معنيين: الثوب الرَذِيل الخَلَق البالي. وعلى الثوب الجديد الراقي -الجاكت والبنطال- ومن ثم صارت من المتضاد.
ولعل السبب في هذا التضاد أنها أصابها تطور من وجهين:
الأول- تطور لفظي: وذلك أن “البَدْلَة” -بالدال-: مُحرَّفة عن “بِذْلة” بالذال المعجمة، وهي ما يُبتذل من الثياب، مأخوذة من البَدَل؛ لأنها تكون بدل أخرى، ويرادفها في العربية الحُلّة، والحُلّة: إزار ورداء، ولا تسمى حُلَّة حتى تكون ثوبين.([11])
وقد دأبت العامة على إبدال الذال دالًا في ألفاظ كُثر، فيقولون -في ذاب-: داب، وفي ذئب: ديب -مع التسهيل- وفي ذيل: ديل… والذي سوغ هذا الإبدال على ألسنتهم قربُ مخرجي الدال والذال، فالدال تخرج من بين طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، والذال تخرج مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا([12]).
ولهذا التحريف البيِّن؛ خطَّأ ابن أيبك الصفديُّ (ت 764هـ) هذه الكلمة -البَدْلَة- فقال: “ويقولون: لبستُ بَدْلَةً من ثيابي. والصواب: بِذْلَة، بالذال المعجمة وكسر الباء”([13])
الثاني- تطور دلالي: حيث صحب التطورَ اللفظي الآنفَ تطورٌ في الدلالة، فأضحت تستعمل في الثوب القشيب النفيس ذي الهيئة المؤلَّفة من جاكت وبنطال، بعد أن كانت تعنى الثوب القديم البالي المبتذل الممتهن. ومظهر هذا التطور رقي الدلالة، حيث دل على الزي الراقي النفيس، بعد أن كان للثوب البالي المبتذل.
وكلا التطورين مُحْدَث([14]) جرى على ألسنة العوام، ثم فشا وشاع عند المتخصصين.
وقد لَحَّنَ الزبيدي هذين التطورين وخطأهما، مبينًا وجه الخطأ، فقال: “وقولُ العامَّة: البَدْلَةُ، بالفتحِ وإهمالِ الدَّال، للثِّيـاب الجُـدُدِ، خَطأٌ مِن وُجوهٍ ثَلاثةٍ، والصَواب بكسرِ المُوحَّدة وإعجامِ الذَّال، وأنـه اسمٌ للثِّيابِ الخَلَقِ، فتأمَّلْ ذلك”. ([15])
ورفضها من اللغويين المحدثين الدكتور أحمد مختار عمر(ت 1424هـ)، داعمًا رفضه إياها بأنها لم ترد عن العرب، وإنما وردت: بِذْلَة، وحُلَّة، وكسوة.([16])
2 – قهوة:
المعنى الفصيح:
“القهوة: الخَمْر، سُميّت قهوة؛ لأنّها تُقهي الإِنسانَ، أي: تُشْبِعُه، وتذهب بشهوة الطّعام.”([17]) وقيل: “لأنّ شاربَها يُقْهِي عَن الطَّعَام: أَي: يكرههُ ويأجَمُه. وَقَالَ الشَّاعِر يذكر نسَاء:
فأَصْبَحْنَ قد أَقْهَيْنَ عَنِّى كَمَا أَبَتْ | حِياضَ الإمِدّان الظِّباءُ القَوامِحُ ([18]) |
يصف نسَاءً سَلوْنَ عَنهُ لمّا كبر”([19])
“يقال: قد أَقْهَى عن الطعام وأَقْهَمَ، إذا لم يشتهه”([20]) “قال الأصمعي: ومن أسمائها([21]): القهوة، والراحُ، والرحيق، والرَّازِقِيّ”([22])
وشاهد ذلك قول الشاعر:
وقَهوْةٍ صَهْباءَ باكرتُها | بجَهْمَةٍ والدِّيكُ لم يَنْعَبِ([23]).([24]) |
من هنا ندرك أن العرب أطلقت القهوة على الخمر، والخمرُ ذات تأثير مسكر، حيث تذهب بعقل شاربها، وتفقده وعيه؛ ولهذا حرمها الشارع -سبحانه.
المعنى العامي:
تُستعمل القهوة الآن للدلالة على مشروب يُعد من البن المسحوق، يستخدمه شاربوه بقصد التنبيه وإنعاش العقل وتنشيط الدورة الدموية؛ لاحتوائه على مادة الكافيين، وهي حبوب تزرع في كثير من الدول، وشاربها لا يقلاها، ولا يهجرها ولا يسلاها.
وهذه الدلالة مشتهرة عند العامة والمتخصِّصين، بل هي مصطلح عالمي فاشٍ.
استنتاج وتعليق:
بينتُ سلفًا أن القهوة أُطْلِقَت عند العرب على الخمر، والخمرُ في اللغة: ما أَسْكَرَ من عصير العنب؛ لأَنها خامرت العقل. والتَّخْمِيرُ: التغطية، يقال: خَمَّرَ وجْهَهُ، وخَمِّرْ إِناءَك. والمُخامَرَةُ: المخالطة.([25]) “وفي الحديث: “كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ”([26]) كأنه أُخذ -والله أعلم- من مخامرتِهِ العقل”. ([27])
فالقهوة -بمدلولها القديم وهو الخمر- مُذهِبة العقل مُفقِدة الوعي والانتباه، أما القهوة -الآن- فهي منبهة العقل منشطة التركيز؛ ومن هنا برز التضاد بين المعنى الفصيح والمعنى العامي.
ومرد ذلك التضاد إلى أحد أمرين:
الأول- التطور الدلالي، فالمعنى الأول لــ”القهوة” هو الخمر، وأما الثاني فهو ذاك المشروب المنبِّه. وقد صرح الزبيدي بهذا التطور، فقال: “والقَهْوَةُ: الخَمْرُ. يُقالُ: سُمِّيَت بذلكَ؛ لأنَّها تُقْهِي شارِبَها عن الطَّعامِ، أَي: تَذْهبُ بِشَهْوتِه، كما في الصِّحاح. وفي التَّهذيبِ: أَي: تُشْبِعُه. قُلْت: هذا هو الأصْلُ في اللُّغَةِ، ثم أُطْلِقَت على ما يُشْرَبُ الآنَ مِن البُنِّ لثمَرِ شَجَرٍ باليَمَنِ … يُقْلَى على النارِ قَلِيلاً، ثم يدُقُّ، ويُغْلَى بالماءِ. وَقَد سَبَقَ لي في خُصُوصِ ذلكَ تَأْلِيفٌ لَطِيفٌ سَمَّيْته (تُحْفَةُ بَني الزمن في حُكْم قَهْوَةِ اليَمَنِ) . ([28])“([29])
ومجال هذا التطور ارتقاء الدلالة؛ لأن الكلمة تسامت دلالتها؛ إذ كانت تدل على مُحَرَّم وهو الخمر، ثم أطلقت على مسحوق البُنِّ، وهو -بلا ريب- حِلٌّ وبِلٌّ.
الثاني- التعريب من (كافا) الحبشية؛ ذلك لأن أصول القهوة تعود إلى إثيوبيا، وتحديداً منطقة (كافا)؛ حيثُ يُرجَّحُ أنَّه جُلبت من هناك إلى منطقة جنوب الجزيرة العربيّة؛ ومن ثمَّ بدأَت زراعتُها في القرن الخامس عشر، وبدأ انتشارها بين العَرب ومن يجاوِرُهم.([30])
فتعريب كلمة (كافا) -التي تعني المسحوق المنبِّه عند الأحباش-إلى كلمة “قهوة”- التي استعملت في الخمر عند العرب- كان سببًا في وقوع التضاد فيها، حيث استعمل العرب قديمًا “القهوة” في الخمر، واستعمل المحدثون “القهوة” -معرَّب “كافا”- في المشروب المنبه؛ ومن ثم ظهر التقابل بين المعنيين.
======================
([1]) تهذيب اللغة 14/312 (ب ذ ل)، وينظر: المحكم والمحيط الأعظم، 10/74 (ب ذ ل)، والإبانة في اللغة لسلمة بن مسلم العوتبي 2/283 (حرف الباء).
([2]) معجم ديوان الأدب للفارابي 1/199 (ب ذ ل).
([3]) الصحاح، 4/1632 (ب ذ ل)، بتصرف.
([4]) المحكم والمحيط الأعظم، 10/74 (ب ذ ل).
([5]) ورد من طريق ابن عباس -رضي الله عنهما- برواية: “مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا”، وذلك في: مسند الإمام أحمد 2/497 برقم (2040)، وسنن ابن ماجه 2/316 برقم (1266)، واللفظ لابن ماجه.
([6]) النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/111.
([7]) ينظر: تاج العروس، 21/78 (ب ذ ل).
([8]) ينظر: المعجم العربي لأسماء الملابس، د. رجب عبد الجواد إبراهيم، ص 51 (ب د ل).
([9]) ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، لأحمد مختار عمر 1/174 (ب د ل).
([10]) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، لابن أيبك الصفدي 1/151، 152 ، بتصرف.
([11]) ينظر: المعجم العربي لأسماء الملابس، د. رجب عبد الجواد إبراهيم ص 51 (ب د ل).
([12]) ينظر: سر صناعة الإعراب، لابن جني 1/47 .
([13]) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، لابن أيبك الصفدي 1/151، 152 .
([14]) ينظر: المعجم الوسيط 1/44 (ب د ل).
([15]) تاج العروس 28/71 (ب ذ ل).
([16]) ينظر: معجم الصواب اللغوي دليل المثقف العربي، 1/177 (ب د ل).
([17]) العين 4/64 (هـ ق و)، وينظر: كتاب الألفاظ، لابن السكيت ص266، والصحاح 6/2470 (ق هـ ا) .
([18]) البيت من الطويل، وقد نسب إلى أبي الطمحان القيني، في: الجيم، لأبي عمرو الشيباني بالولاء 3/96، كتاب الألفاظ، لابن السكيت، ص266 ، وأساس البلاغة 2/107 (ق هـ)، ونسب إلى زيد الخيل في: المحكم والمحيط الأعظم 9/289 ، 290 (د د م)، وتاج العروس 7/393 (أ م د).
الإمِدَّان: الماءُ الَّذِي يَنِزّ على وَجْه الأَرض. تاج العروس 7/393 (أ م د).
القَوامِحُ: الإبل، هي التي تَدَعُ الماء وإن كانَتْ عِطاشاً. الجيم لأبي عمرو الشيبانـي 3/124.
([19]) تهذيب اللغة، 6/182 (هـ ق و).
([20]) كتاب الألفاظ، لابن السكيت ص 266، والزاهر في معاني كلمات الناس، للأنباري 2/22.
([22]) الجراثيم، لابن قتيبة الدينوري 2/109، والبارع في اللغة لأبي علي القالي ، ص84 (هـ ق و) .
([23]) البيت من السريع، وهو للأسود بن يعفر، في: ديوانه ص22.
الجَهْمَة: بقية من سواد الليل في آخره. وينعب: يصوت. الشاعر يصف أنه كان يباكر اللذات، ويسقي ندماءه. ينظر: ديوان الأسود بن يعفر، ص22 .
([24]) ينظر: تهذيب اللغة 6/44 (هـ ج م).
([25]) اللسان 4/254 (خ م ر) بتصرف.
([26]) روي موقوفًا على ابن عمر -رضي الله عنهما- وذلك في: الموطأ، للإمام مالك بن أنس 1/105 برقم (16) ، ومسند الإمام أحمد بن حنبل 4/344 برقم (4644)، واللفظ للموطأ.
([27]) مجمل اللغة ص 302 (خ م ر).
([28]) لم أقف عليه إلا في خمس لوحات مخطوطة، بعنوان: (تحفة إخوان الزمن في حكم قهوة اليمن)، في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، بقسم المخطوطات، ورقم المخطوط: (5595 ف 711693)، منسوخة بخط: محمد بن أحمد.
([29]) تاج العروس 39/371 (ق هـ و).
([30]) coffee, History”, www.britannica.com, Retrieved 2018-4-1. Edited