حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

علم اللغة التطبيقي [الحلقة الثانية: مجالاته، تأصيله] بقلم أ.د/ عصام فاروق

أستاذ أصول اللغة ووكيل كلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين لشئون الدراسات العليا- جامعة الأزهر

مجالات علم اللغة التطبيقي:

قلنا إن علم اللغة التطبيقي من الميادين التي تلتقي فيها الكثير من المجالات المعرفية والعلوم الإنسانية لذا فمن الطبيعي أن تتعدد المجالات التي يعالجها والقضايا التي يحل مشكلاتها مما له علاقة باللغة أو للغة علاقة به، ومن تلك المجالات التي يدرسها:

أولا- تعليم اللغة الأم وتعلمها:

يعتمد علم اللغة التطبيقي على معطيات العلوم المتعددة الذي ذكرنا طرفًا منها، في الارتقاء بعملية تعليم اللغة الأم، والعمل على إيجاد حلول ناجعة للمشكلات التي تواجه تلك العملية، ولعل الإشكالية الكبرى التي تواجهنا في هذا الشأن: ما طبيعة اللغة الأم – عندنا على سبيل المثال العربية- وما يعتريها من ازدواجية لغوية تكاد العاميات فيها أو اللهجات تسيطر على الجانب التواصلي بين أبناء الأمة وتسيير حياتهم اليومية، مما دعا البعض إلى إحلال العاميات محل الفصحى التراثية، أو على أقل تقدير إحلال اللغة الفصيحة التي هي مزيج بين الفصحى والعاميات وتمثل لغة الصحافة جانبًا منها أو خير ممثل لها.

أقول هذا في ظل تعدد اللهجات نفسها، واختلاف مستوياتها، وتداخلاتها مع اللغة الفصحى، بل وتطعيم الفصحى ببعض منها حتى عند الكثيرين من المثقفين وذوي العلم، فهناك لهجات إقليمية، تختلف باختلاف الإقليم الجغرافي للمتكلمين، فاللهجة المصرية غير الخليجية غير المغربية وهكذا.

وهناك اللهجات الاجتماعية، ففي داخل المجتمع الواحد قد تختلف اللهجات، فلهجة المثقفين تختلف عن لهجة العوام، ولهجة أهل القرى تختلف عن لهجة أهل المدن، وهكذا

وهناك اللهجات المهنية، التي ينبع اختلافها من اختلاف المهنة وعناصرها ومفرداتها.

ثانيا- التخطيط اللغوي. (تعريب الإدارة وتعريب التعليم)

((ويسعى هذا العلم إلى حل مشكلات الاتصال اللغوي على مستوى الدولة أو الوطن، وذلك بتقديم خطط علميةٍ واضحةٍ ومحددة الأهداف للتصدي للمشكلات اللغوية، واقتراح الحلول العلمية والعملية لذلك، وفق برنامجٍ زمنيٍّ محددٍ)) ([1])

إن تلك التنوعات اللغوية والازدواجية لتقتضي أن نخطط لما نريده للغتنا وانتشارها وتعليمها في فترة زمنية معينة خمسية كان أو غيرها، أما أن يسير الأمر بطريقة ترك السفينة لحركة الرياح فهو يفسر ما تعانيه لغتنا من إهمال وإقصاء لمقوماتها، في الوقت الذي نضع فيه الخطط الاستراتيجية للجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، متغاضين عن اللغة وكونها لاعبًا أساسيًّا لا يمكن التغاضي عنه في مثل تلك المجالات.

ومن المشكلات التي يحاول التخطيط اللغوي معالجتها ما يلي: ([2])

  • مشكلة عدم قدرة اللغة على الوفاء بمتطلبات التطور العلمي.
  • مشكلة عدم القدرة على التفاهم بين المجتمعات اللغوية ضمن الدولة الواحدة.
  • مشكلة اختيار لغة محددة وجعلها لغة للتعليم.
  • مشكلة التنافس بين اللهجات والارتقاء بلهجة إلى مرتبة اللغة الرسمية.
  • مشكلة اعتماد اللغة المناسبة للتبادل العلمي والترجمة.
  • مشكلة النظام الكتابي وعدم ملاءمته أو صعوبته.

يقوم التخطيط اللغوي على عملية منهجية واعية لما يمكن الوصول إليه بدءًا من اختيار النموذج الذي يراد نشره واعتماده لغة رسمية شبه موحدة، مرورًا بوضع القوانين المنظمة لاستعمال تلك اللغة والبرامج التعليمية المتعددة التي تحويها، وانتهاءً إلى مرحلة التنفيذ والتكليف للإذاعات والقنوات الإعلامية والمنشورات الحكومية الداعية إلى استعمال هذه اللغة وعدم قبول الكتابة أو التحدث بغيرها.

ومن أوضح النماذج المطبقة في التخطيط اللغوي محاولة إحياء اللغة العبرية في العصر الحديث، من حيث إجراء العديد من الدراسات اللغوية للعبرية القديمة ومدى الإفادة منها في إخراج هذا المولود اللغوي، وتدريب المدرسين الذي سيعلمون هذه اللغة لليهود المقبلين من مشارق الأرض ومغاربها ومحاولة التغلب على اختلاف لغاتهم، ثم وازى هذا التخطيط تخطيط آخر لإزاجة العربية وجعل العبرية اللغة الرسمية للجميع. ([3])

ثالثا- صناعة المعاجم (المعجمية):

تقتضي عملية تعليم اللغة للناطقين بغيرها وجود معاجم تخدم تلك الشريحة من المتعلمين ذوي الخصائص المختلفة عن أبناء اللغة الأم ومدى احتياجهم إلى المعجم، وذلك فإن ما يهمنا هنا هو المعاجم الثنائية أو المتعددة، كالمعاجم العربية- الإنجليزية، أو العربية- الإنجليزية- الفرنسية- الإسبانية.

ولاشك أن هذه المعاجم تختلف في خصائصها ومداخلها عن المعاجم الأحادية التي تحوي ألفاظ لغة واحدة متنًا وشرحًا، فهناك مشكلات لابد أن يتغلب عليها من يصنف في هذا المجال، مثل عدم المساواة التامة بين دلالة الألفاظ بين اللغتين أو اللغات المكونة لمداخل المعجم، فالكلمة الإنجليزية الشارحة في المعجم الثنائي قد لا تساوي الكلمة العربية المشروحة من حيث الشحنات الدلالية والثقافية والحضارية والدينية، مما يقتضي معها زيادة الشرح بعبارات شارحة أو غيرها من التقنيات التي يراها المعجمي مناسبة لحل هذه المشكلة.

رابعا- علم المصطلح (المصطلحية):

وهي عبارة عن :((العلم الذي يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والألفاظ اللغوية التي يُعبِّر عنها.))([4])

أو بمعنى آخر هو العلم الذي يبحث في صياغة المصطلحات العلمية وربطها ببعضها البعض بطريقة مفاهيمية منهجية سديدة، ويعمل على حل مشكلات المصطلحات سواء منها ما تعلق باللغة أو خارجها، وكذلك العمل على توحيد المصطلحات ضمن معايير علمية، من منظور أن العلم ملك للإنسانية ليس محصورا في دولةٍ أو قارةٍ بعينها، وكذلك العمل على إعداد معاجم مصطلحية ذات مواصفات خاصة.

ومن الملاحظ أن اختلاف المصطلحات وتعددها قد يوقع الباحث منا في مشكلات عديدة أو يحرمه من خير كثير؛ يأتي نتيجة طبيعية لهذا التعدد. فعلى سبيل المثال: كان بعض الباحثين يشكون من قلة المراجع التي تتحدث عن (علم اللغة التطبيقي) في المكتبة العربية، وكنا نتعجب من ذكرهم ذلك وعندنا الكثير من المؤلفات والكتب المترجمة في هذا الشأن، إلى أن تنبهتُ إلى أن المشكلة ليست في قلة المراجع، وإنما في تعدد المصطلح الدال على العلم نفسه، فهم يبحثون تحت هذا المصطلح الدال على العلم، غير منتبهين إلى أن بعضهم يسميه (اللسانيات التطبيقية)، فإذا ضمننا الكتب التي تحمل هذا الاسم إلى الكتب التي تحمل اسم علم اللغة التطبيقي خرج لنا الكثير منها، وما منعنا من الإفادة من ذلك إلا مشكلة تعدد المصطلحات الدالة عليه.

وهنا نلاحظ أن وضع المصطلحات وضعًا صحيحًا، وتعددها في الدلالة على المفهوم الواحد،وعدم انتشارها مشكلات ذات طبيعة لغوية اقتضت وضع حلول لها، من هنا دخلت علم المصطلحات إلى ساحة علم اللغة التطبيقي ضمن القيود التي أوردناها في مفهومه العام من قبل.

خامسا- علاج أمراض الكلام (عيوب النطق):

نلاحظ عند بعضهم، خصوصًا الأطفال، نوعًا من المشكلات المتعلقة بعملية الكلام، وقد ذكر الباحثون مظاهر متعددة لذلك، منها: ([5])

  • النقص في الثروة اللغوية للطفل، مقارنة بغيره من الأطفال الذي يساوونه في العمر.
  • النقص في أسلوب الأداء، من حيث طريقة نطق الأصوات في المفردة، فيبدل صوتًا من صوتٍ.
  • النقص في سرعة نطق الكلمات، كأن يتلجلج اللسان في صوتٍ من الأصوات، فينطقه أكثر من مرة.
  • إخراج بعض الأصوات من غير مخرجها.. إلخ

وقد تنبه العلماء إلى أن عيوب النطق قد يكون سببها عضويًّا، وهذا لا دخل لعلم اللغة التطبيقي فيه، حيث إن مرده إلى الطب والتدخل الجراحي تحديدًا.

وقد يكون سبب هذا العيوب نفسيًّا، وهنا يتدخل علم اللغة التطبيقي من خلال المزج ما بين المعطيات اللغوية وكذلك النفسية؛ للبدء في العلاج.

ويكون ذلك بـ((الاسترخاء الكلامي، التمرينات الإيقاعية، تعلم اللغة من جديد، التدرج الكلامي من السهل إلى الأصعب، وتدريب المصاب على تنظيم سرعة الكلام، وتمرينات الحروف الساكنة والحروف المتحركة، والطريقة الموسيقية في تعليم الكلام والألحان))

سادسا- تعليم اللغة الثانية وتعلمها:

يبقي مجال تعليم اللغة وتعلمها سواءً للناطقين بغيرها، أو للغة الأم هو المجال الأهم من ضمن تلك المجالات مما جعله عند البعض وفي أغلب التصورات هو المكافئ القوي لعلم اللغة التطبيقي.

  • ويذكر كريستال أن السبب قد يعود إلى أسبابٍ تاريخيةٍ متعددةٍ، حيث يقول: ((أصبحت فكرة اللسانيات التطبيقية – نتيجة لأسباب تاريخيةٍ متعددةٍ- لدى الكثيرين مرادفة للدراسة العملية لمبادئ تعليم اللغات الأجنبية وتعليمها، وتطبيقات هذه المبادئ.)) ([6])
  • أو أن السبب يعود إلى بواكير ظهور مصطلح علم اللغة التطبيقي فعند ((بداية ظهوره كان يستعمل مرادفا لتعليم اللغات الأجنبية، ثم لتعليم اللغات الوطنية.. غير أن هذا العلم ما لبث أن اتسعت دائرته وتعدد فروعه ومجالاته، انطلاقًا من بعض المشكلات التي أثار بعضها علماء اللغة في دراستهم العلمية أو النظرية للغة.. مثل: علاقة اللغة بالمجتمع وعلاقة اللغة بالفكر والعقل والنفس، وعلاقة اللغة بالجغرافيا وتوزيع اللهجات..)) ([7])

 

محاولة تأصيل علم اللغة التطبيقي في التراث العربي:

عمد بعض الباحثين إلى إثبات سبق العلماء العرب إلى الحديث عن بعض قضايا علم اللغة التطبيقي، وسأكتفي هنا ببعض النماذج التي تثبت أصالة الدراسات العربية القديمة فيما يخص علما يعد حديثا من حيث النشأة، عند واحد من علماء العربية الكبار، وهو الجاحظ ([8])

فإذا كان علم اللغة التطبيقي يعتمد على عملية الاكتساب كونها عملية مهمة في بيان كيفية التعلم، كما سبق وأوضحنا، فإن الجاحظ تحدث عن تلك العملية، ومن ذلك قوله: (( والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم: ماما، وبابا؛ لأنهما خارجان من عمل اللسان، وإنما يظهران بالتقاء الشفتين)) ([9])

كما تحدث أيضا عن ظاهرة اكتساب اللغة الثانية في وقت متأخر من العمر، حيث يقول: ((فأما حروف الكلام فإن حكمها إذا تمكنت في الألسنة خلاف هذا الحكم. ألا ترى أن السِّندي إذا جُلِب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا.. وكذلك النبطي القح يجعل الزاي سينا))([10])

وكذلك لم يفت الجاحظ أن يتحدث عن الترجمة وهي من مجالات علم اللغة التطبيقي، ومن نصوصه في هذا الشأن قوله:(( والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضعُ التعجب، لا كالكلام المنثور، والكلام المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوَّل من موزون الشعر)) [الحيوان 1/53]

وهو يتحدث هنا عن صعوبة ترجمة الشعر وما يحويه من محسنات وما يشتمل عليه من صور فنية، تفقد رونقها عند نقلها إلى لغة أخرى.

=====================

[1])) دراسات في اللسانيات التطبيقية حلمي خليل ص 80

[2])) ينظر: السيوسيو- ألسنية والصراعات اللغوية، ميشال زكريا، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 27 ص63

[3])) ينظر: دراسات في اللسانيات التطبيقية حلمي خليل ص 82 وما بعدها.

(3) علم المصطلح (269)

[5])) تطور لغة الطفل (76، 77)، أحمد أبو عرقوب، مركز غنيم للتصميم، عمان، 1989م

[6])) نقلا عن: تعليم العربية لغير الناطقين بها في ضوء اللسانيات التطبيقية (30).

[7])) دراسات في اللسانيات التطبيقية حلمي خليل ص 75

[8])) من هذه الدراسات المهمة بحث: علم اللغة التطبيقي في التراث العربي الجاحظ نموذجا، لجاسم على جاسم، منشور في مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، المجلد 40 العدد 2 لسنة 2013م

[9])) البيان والتبيين (1/62)

[10])) السابق (1/70)

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu