الصوابُ اللُّغَوِي [الحلقة السادسة] بقلم أ.د/ عاطف الأكرت
أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة
عشر سنوات مضت، ولم يقطع المجمع برأي في القضية حتى كانت الدورة الحادية والثلاثون لسنة 1965م ، فاستأنفت لجنة الأصول النظر في الموضوع بعد دراسات وبحوث ، وجاء قرارها : ” يجوز الوقوف بالسكون عند تتابع الأعلام في مثل : (سافر محمد علي حسن ) مع حذف ( ابن) تيسيرا على القراء والكتَّاب، وتخلُّصًا من صعوبة الإعراب” ([1])، وفي الجانب من القرار كُتب : قرار للجنة الأصول لم يبت فيه المجمع.
لم يكن المجمع قد استراح إلى هذا القرار الصادر من لجنة الأصول ، ولم يوافق عليه كلٌّ من: الأستاذ الشيخ : عبد الرحمن تاج ( شيخ الأزهر الأسبق، وكان عضوًا)، والأستاذ : علي عبد الرازق ، والأستاذ الشيخ: محمد علي النجار محقِّق (الخصائص).
وكتب النجار مذكرة لغوية بعنوان : ” سافر محمد علي حسن “.
قال في ختامها:” وأيا ما كان الأمر فإن الكاتب ينبغي أن يربأ بنفسه عن مجاراة العامة في هجر الإعراب ، والذي أراه أن يُتسامح في ترك ( ابن) إذْ أصبح معروفًا أنه مراد ، ولا يُتسامح في ترك الإعراب، فينبغي المحافظة عليه” ([2]).
وكتب الشيخ : أمين الخولي ( وكان عضوا باللجنة) مذكرة بعنوان: ” الأسماء قديما وحديثا”.
صوَّرت هذه المذكرة المعضلة التي واجهت المجمعيين ، وعرضت الآراء التي قيلت في سبيل الحل ، وخلصت إلى أن الحل الميسر ” هو تسكين الأعلام الثلاث إجراء للوصل مجرى الوقف، أو وصلًا على نية الوقف” ([3]).
لكن الشيخ عبد الرحمن تاج حين قرأ المذكرة لم يطمئن إلى هذا التخريج ، فكتب ردا عليها في بحث بعنوان طويل جدا هو :
” يقال : سافر محمد بن علي بن حسن . لا: سافر محمدْ عليْ حسنْ.
تفصيل القول في تتابع الأعلام بتسكين أواخرها ، وحذف كلمة ( ابن) من بينها في مثل” سافر محمد علي حسن”([4]).
رأى الشيخ أن التعبير السائر غير جائز لغويا ، وأنه لا يقبل تلك التخريجات التي تحاول المذكرة تسويغها ، وتشريعها، ولا يستطيع الشيخ أن يمنع المستعمل ، فرأى أن يقال فيه : إنه لحن مشهور ، أو خطأ مستعمل ، لكن لا يوافق على دخوله حظيرة اللغة، وكان العنوان واضح الدلالة على الرأي الصواب من وجهة نظره.
وتوالت المذكرات العلمية التي تعالج الموضوع، فقدم الدكتور/ إبراهيم أنيس (الخبير بلجنتي الأصول واللهجات وقتئذ) مذكرة بعنون: “حول الرأي في قولهم : سافر محمد علي حسن” يرجح فيها الإسكان اعتمادًا على قراءة التسكين لدى بعض القراء.([5]).
وقامت لجنة اللهجات بدراسة ظاهرة الإسكان في الفصحى ، وقدمت بحثين آخرين في الموضوع ، وهما:
1- ظاهرة الإسكان في الفصحى للأستاذ / محمد شوقي أمين.
2- بحث عن الإسكان للدكتور/ عبد الصبور شاهين.
وخلصت اللجنة إلى ما يلي:
1- أن الإسكان ورد في قراءات القرآن ، وخاصة السبع.
2- أن الإسكان لغة في تميم وبني أسد وبعض نجد.
3- أن الإسكان وردت به شواهد من الشعر المحتج به.
4- أن سيبويه، وأبا علي الفارسي ، وابن جني ، وغيرهم وجهوا ذلك بأنه إجراء للمتصل مجرى المنفصل ، أي حمل إسكان لام الكلمة على إسكان عينها..
5- أن بعض أئمة النحاة وجهوا ذلك من باب إجراء الوصل مجرى الوقف ، أو الوصل بنية الوقف.
6- وقد توارد في أقوال جمهرة النحاة أن ذلك جائز في النثر على الصحيح أي الاختيار ، ولا يختص بحال الضرورة .
بعد هذه النتائج تخلص إلى ” أن إسكان الحركة الإعرابية ليس بمنكور في الفصحى ، ومن ثم رأت اللجنة الاستناد إلى ذلك في إجازة الوقف بالسكون على الأعلام المتتابعة كما هو الجاري على الألسن والأقلام في العصر الحديث “.
وكانت المذكرات العلمية التي كتبت بهذا الخصوص تزيد الحجج المؤيدة للإسكان ، ويمكن القياس على إسكان الوارد في التراث إسكان الأعلام المتتابعة .
وبعد هذه الجلسات ، والمناقشات، والمذكرات ، والموافقات ، والاعتراضات، وبعد أكثر من عشرين عاما ، وفي الدورة الرابعة، والأربعين من عمر المجمع لسنة 1978م يُصدرُ قراره :
” يُجيزُ المجمعُ ما يَجري على الألسنة من حذف ( ابن ) من الأعلام المتتابعة في مثل سافر محمد علي حسن ، وتَضبط هذه الأعلام على أحد الوجهين الآتيين:
- يُعربُ العَلَمُ الأولُ بحسب موقعه، ويُجر ما يليه بالإضافة .
- تُسكَّنُ هذه الأعلامُ كلُّها إجراءً للوصل مجرى الوقف” ([6]).
تلكم هي القضية التي أخذت عشرين عاما من البحث ، والدراسة ، وقُدِّمت فيها المذكرات، وناقش فيها الأعضاء.
عشرون عاما والمجمع يعالج، وينقب، ويبحث ، ويحاول أن يستقر إلى رأي يرتاح إليه ضميرُه اللغوي .
كيف كان يقابل أحدُهم استعمال الأعلام في الواقع المعيش؟
وماذا كان يقول الزيات كلما سمع الأسلوب ؟
لكن على الجانب الآخر .. هناك في الواقع الحي ، والاستعمال اليومي: هل توقَّف الناس عن قراءة الأعلام ساكنة ، وانتظروا قرار المجمع؟
وهل غيَّر قرارُ المجمع الاستعمال في شيء ؟
لنفترض مثلا أن المجمع لم يوافق على ” ما يجري على الألسنة ” – كما جاء في القرار – ، وأن المجمع يُلزم الناس أن يُعربوا الأسماء بالإضافة، أو بالإتباع .. ماذا كان مصير القرار حينئذ ؟
أكان الناس يخطِّئون بعضَهم في نطق الأعلام ؟
وإذا خطَّأوهم أتُراهم يردُّونهم إلى الصواب اللغوي ، ويفرضون عليهم النطق المراد؟
لم يتغير استعمال الأعلام كما ألِفها الناس، وتداولتها الألسنة ، ولم يعرف الناسُ شيئا عن هذه المعركة العلمية التي دارت في رحاب أكبر مؤسسة معنية بدراسة اللغة العربية في العالم العربي.
أصدر المجمع قراره، وكان الزيات الذي اقترح دراسته قد انتقل إلى جوار ربه قبل صدوره بعشر سنوات ، وهو الذي كان – منذ ولادة السؤال – قد اقترح الوجهين المتضمَّنين في القرار ، اقترح الوجه الأول في الدورة الحادية والعشرين، واقترح وجه التسكين في الدورة التالية لها الثانية والعشرين ( قياسا على حروف التهجي).
مات أمين الخولي ( 1966) ، وهو الذي كتب المذكرة الطويلة الوافية، وتضمنت ما سماه بـ “الحل الميسر” ، تسكين الأعلام إجراء للوصل مجرى الوقف، وهو الوجه الثاني في قرار المجمع.
مات العقاد ( 1964) وهو الذي كان يؤيد الاستعمال الشائع ، ويرى تخريجه على أي وجه.
مات طه حسين ( 1973) ولم يسمع للجدُدِ كلمة ، وظلوا متوقفين عن الجزم بالرأي.
مات الشيخ عبد الرحمن تاج ( 1975) ، وهو الذي عارض الاستعمال معارضة شديدة، ونسبه إلى الخطأ ، ولم يقبل بدليل من أدلة المجيزين، وكتب مذكرة قوية في الاحتجاج لرأيه .
قضية علمية أجهدت العلماء الفحول ، ونالت من أوقاتهم، وأخذت من جلساتهم ، ومؤتمراتهم .
وغير هذه القضية كثير ، بحوث علمية فائقة، ومذكرات رائعة، وحوارات لغوية طريفة، ولكن ذلك العمل الجليل لا يؤثر في الاستعمال شيئا ، ولم يهجر الناسُ أسلوبًا لأن اللغويين يجيزونه، ولم ينطقوا أسلوبا لأن اللغويين يبيحونه، إنما ينطقون بما تواضعوا عليه فيما بينهم، غير ناظرين إلى موافقة اللغويين عليه ، أو عدم الموافقة .
في مسألة كهذه يرى الناس أن تسكين الأعلام أيسر في النطق ، وأسهل في الكلام من إعرابها ، وإذا كانت وظيفة الإعراب توضيح المعنى ، وعدم اللبس ، فإن المعنى واضح على التسكين ، والدلالة تامة فلا حاجة للإعراب إذا ما أدى إلى الثقل في مثال كهذا: جاء محمدُ عليِّ حسنِ .
الإسكان هو الأولى بالذيوع والانتشار لسهولته، ويسره على اللسان ، والشواهد لعربيته كثيرة عرضها السادة الأعضاء .
والسؤال : متى وقف استعمال اللغة على قوانين، وآراء ، وقواعد تُصوِّب بعض الأساليب، وتُخطِّئُ بعضها ؟
إن المجتمع إذا تواضع على أسلوب أذاعه ، ولو خالف اللغة ما دام يؤدي مهمة التوصيل والإبلاغ ، وهي المهمة المنوطة بها اللغة ، ولن يتوقف الاستعمال على فتوى لغوية ، ولا إجازة علمية ..
يستعمل الناس : البرمجة، والمنهجة، وآيل للسقوط ، و غش في الامتحان، والانضباط، وتصفية المشاكل ، وحضر ما يقرب من عشرين ، وأول أمس، وأمس الأول ، ولعب دورا ، وما هو كذا؟ ، وتجميد الأرصدة، وشباب واعد ، والاستشعار من بعد، وكل عام وأنتم بخير ، وخرجوا سويًّا ، وهب أني فعلت، ومِنْ على المنابر ، واستهتر فلان بفلان ، وفلان أحسن من ذي قبل، وصارحه الرأي ، والتقى فلان فلانا، والتلفزة ، والعولمة ، والإنترنت.. إلى غير ذلك من ألفاظ وأساليب لم تكن مستعملة في العصر القديم، وخضعت هذه المستجدات لبحوث العلماء ، وكتبوا فيها، وناقشوا كما ناقشوا في ( سافر محمد علي حسن) ، وانتهوا إلى إجازتها ، وإذا وُصِفَ أسلوب ما بالخطأ اللغوي فإنه لن يؤثر على استعماله ، وسيبقى على صفحات البحوث، والجرائد، والمجلات، ووسائل الإعلام .
فماذا نحن فاعلون؟
( يتبع)
========================
[1] ) كتاب : في أصول اللغة 1 / 163 من أعمال المجمع.
[2] ) في أصول اللغة 1/ 168.
[3] ) في أصول اللغة 1/ 178.
[4] ) في أصول اللغة 1/ 181.
[5] ) في أصول اللغة 1/ 164.
[6] ) مجموعة القرارات العلمية ص 37، وكتاب في أصول اللغة 3 / 170.