المصوتات ومناسبتها للدلالة الإفرادية في شرح المثلثات اللغوية (2) بقلم أ.د/ منى عبد الظاهر الشامي
أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية البنات الإسلامية بأسيوط جامعة الأزهر
إن الحديث عن التناسب بين خصاص المصوتات والدلالة اللغوية الإفرادية ليس بدعًا, فعلماء العربية قديمًا تناولوا هذه الخصيصة, ولا سيما الناحية الفيزيائية فلقد أشار إليه الكثير, فها هو ذا ابن القيم يشير إلى الخفة والثقل في المصوتات في حديثه عن الحب, فيقول: «وأعطوا (الحُب) حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها، مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها. وأعطوا (الحِب) وهو المحبوب: حركة الكسر لخفتها عن الضمة، وخفة المحبوب، وخفة ذكره على قلوبهم وألسنتهم. فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني، في اللغة العربية تطلعك على قدر هذه اللغة، وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات.»([1]) وغيره الكثير ممن يضيق المجال عن ذكر دورهم البارز في بيان المناسبة بين المصوتات ومعاني الألفاظ.
وفيما يلي من مقالات سوف نرى مدى التناسب بين الصفات الفارقة للمصوتات وخصائص معاني الألفاظ في مثلث قطرب بناء على التقعيد السابق لأسس التناسب بين خصائص المصوتات وخصائص معنى اللفظة, وقد بدأتُ كل لفظة بشرح الفيروزآبادي لها، ثم ما كان في الشروح الأخرى من اختلاف يخدم هذه الفرضية، للاستفادة منها, وهاك تحرير القول فيها:
الأَمــة:
*قال الفيروزآبادي في نسخة الأزهرية: «الأَمَّةُ -بالفتح- الشَجَّة»([2])، وزيد في نسخة المدينة: «والمرة من أَمّ: قَصَد»([3]). ووافقه غيره من الشراح في هذه الدلالة([4])، وزاد الخميسي في شرحه للمثلثات بأن «الأَمَّة: هي الشجة في الرأس تبلغ الدماغ»([5]).
نعلم أن مصوت الفتح ينفتح معه الممر الهوائي بصورة ملحوظة عند النطق به, فهو مصوت متسع, وكذا الأمة ـــ بالفتح ـــ فلن تبلغ الشجة الدماغ إلا إذا اتسعت, ويرشح ذلك أن هناك من خص الأَمَّة بالشجة التي تبلغ أُم الرأس، ولا بلوغ لأُم الرأس إلا باتساع الشجة وانتشارها في الرأس، وقد قال الخليل: «أُمّ الرأس وهو: الدّماغ…. ورجلٌ مأموم. والشّجّةُ الأَمّةُ: التّي تبلغ أمّ الدّماغ»([6])، وجاء ذلك في معجم الفقهاء أن: «الشجة في الرأس: إذا بلغت أم الدماغ، وأم الدماغ: الجلدة التي تجمع الدماغ»([7])، ومن هنا تناسب معنى الأمة ـ بالفتح ـ الشجة باتساعها وانتشارها وامتداها مع اتساع وانتشار وامتداد مصوت الفتح.
* يقول الفيروزآبادي في الأزهرية: «والإمِّة ـ بالكسر ـ: النعمة والخصب»([8])، و يقول المهلبي: «الإِمَّة ـ بالكسر ـ الوفر, وهو كثرة المال»([9]).
وبالنظر في حقيقة الوفر وكثرة المال تجد أن من أسبابه: الحبس والحصر للمال حتى يكثر, فلابد من الحفاظ على المال وحبسه بصورة معتدلة حتى يتحقق الوفر, ومنه أخذ المصطلح المالي (صندوق التوفير) وهو شعبة في البريد تقوم على تشجيع الادخار بحفظ أموال المدخرين واستثمارها([10]), ومن هنا جاء التناسب بين طبيعة مصوت الكسر فعند خروجه يحدث إحاطة لجانبي اللسان بواسطة الأضراس وتضييق المخرج فيترتب على ذلك حبس الهواء قبل خروجه, وبين معنى الإِمَّة وهو الحبس للمال وتضييق وسائل الإسراف حتى يكثر المال ويتوفر.
وهنا أيضًا ملمح دلالي صوتي منبثق عن اصطفاء الكسر, وذلك أن الكسر متوسط الضيق بين الضم والفتح, وكأن ههنا إيماءة إلى أن حبس المال وحصره يكون في حال التوسط بين الإقتار والإسراف, فيتفق ووجهة القرآن في ضبط الإنفاق بحيث يكون وسطًا بين هاتين المنزلتين, ومن ثم قال الله ـ عز وجل ـ ﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾(الفرقان آية 67) فالكسرة لتوسطها بين الضم الضيق والفتح الواسع أشارت إلى هذا القوام, بحيث لا يكون إقتار ذميم, ولا إسراف وخيم.
*يقول الفيروزآبادي في الأزهرية: «الأُمَّة: الجماعة من الناس»([11])، وزيد في نسخة المدينة: «وبالضم: القرن من الناس, والرجل يؤتم به, والجماعة من الناس, والحين, والرجل يقوم مقام جماعة, وجماعة أرسل إليهم رسول, والإمام, والجيل من كل حيّ, والجنس, ومن هو على الحق, ومخالف لسائر الأديان, والقامة, والوجه, والنشاط, والطاعة, والأُمُّ كالأُمَّهة, والدين, والعالم, ومن الوجه والطريق: معظمهما, وأُمَّة الله ـ تعالى ـ خَلْقه»([12]) وذكر المهلبي: أنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: الحين من الزمن.
والثاني: قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل من الآية 120] والثالث: الجماعة من الناس([13]).
وجاء في المفردات أن: «الأُمّة: كل جماعة يجمعهم أمر ما، إمّا دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا»([14]). وذكر أيضًا أن «الجَمْع: ضمّ الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جَمَعْتُهُ فَاجْتَمَعَ»([15])
فالجماعة إذن لا تكون إلا بتجمعها في نطاق معين زمان أو مكان أو على دين بعينه, فهي بذلك مقصورة على هذا التحديد غير ممتدة لغيره, وذلك القصر يناسب طبيعة مصوت الضم فهو ـ كما سبق ـ خلفي يمتاز بالقصر ـ غالبًا ـ كما يمتاز بالتضام, حيث يتجمع هواه بين الشفتين عند النطق به في تلك الفرجة التي بينهما فيكثر فيها, وكذا حال الجماعة من الناس حيث تتجمع وتكثر في المكان أو الزمان المحددين أو حول الأمر والدين، وكل ذلك يناسب التضام في مصوت الضم, فهي إذن تناسب المعاني القصيرة غير الممتدة, والمجتمعة غير المنتشرة, وانضمام الشفتين في الضم مؤذن بحال أفراد هذه الجماعة حيث يحوزوا بعضهم في حيز واحد.
====================
([1])مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين, محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية, (3/12) تح. محمد المعتصم بالله البغدادي, دار الكتاب العربي – بيروت, ط3، 1416 هـ – 1996م.
([2]) أربع رسائل في شرح مثلث قطرب ص15, اعتنى بها وحققها/ هشام بن محمد حجير الحسني, دار الرشاد الحديثة, الدار البيضاء, المغرب, ط1, 1431ه ــ 2010م.
([3]) كتاب الغرر المثلثة والدرر المبثثة, ص367.
([4]) ينظر: أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص87 , 165
([5]) شرح مثلثات قطرب, إبراهيم مقلاتي, ص45, مطبعة هومه, الجزائر.
([7]) معجم لغة الفقهاء, محمد رواس قلعجي, حامد صادق قنيبي, ص37, دار النفائس, ط2, 1408هـ ــ 1988م.
([8]) أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص15, 165.
([9]) أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص87.
([10]) ينظر: المعجم الوسيط (ص ن د ق)
([11]) أربع رسائل في شرح مثلث قطرب ص15, 165, والمثلثات للمقلاتي, ص45.
([12]) كتاب الغرر المثلثة والدرر المبثثة, ص367.
([13]) ينظر: أربع رسائل في شرح مثلث قطرب, ص87.