حقوق النشر محفوظة لموقع كنوز العربية

مفهومُ النَّصِّ في المعاجمِ العربية والغربية..بقلم أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد في كلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان ووكيل كلية العلوم الإسلامية لشئون التعليم والطلاب

تجدر الإشارةُ إلى تحديدِ مفهومِ النَّصِّ؛ زيادةً في الإيضاح وتيسيرًا على القارئ، وتجنبًا لأيِّ لبسٍ قد ينشأُ عن غموضٍ في المفاهيم والتصورات، أو أيِّ خلطٍ بين إبداعاتِ المتقدمين واختراعاتِ المحدثين؛ فمفهومُ النَّصِّ في العربية–قديمًا- يختلفُ –تمامًا- عن مفهومه في الدراسات النَّصيّة المعاصرةِ، سواءٌ في ذلك المعنى المعجمي أو المعنى الاصطلاحي في سائر الحقول المعرفية الأخرى في التراث العربي.

 فالنَّصُّ في معاجم العربية: يدورُ حولَ معانٍ متعددةٍ، جاء عن ابن منظور: ” النَّصُّ: رفعُك الشيء. نَصَّ الحديثَ ينصُّه نصًّا: رفعه… يقال: نصَّ الحديثَ إلى فلان،أي: رفعه، وكذلك نصصّتُه إليه، ونصَّتْ الظبيةُ جيدَها: رفعتْه، ووُضِعَ على المنصّةِ، أي: على غاية الفضيحة والشهرة والظهور… والماشطة تنصُّ العروس فتقعدها على المنصَّةِ، وهي تَنْتَصُّ عليها لترى من بين النساء،… ونصّ المتاعَ نصًّا: جعل بعضَه على بعضٍ، ونصَّ الدابةَ ينصُّها نصًّا: رفعها في السير وكذلك الناقة….والنَّصُّ والنَّصيصُ: السيرُ الشديدُ والحثُّ… وأصلُ النَّصِّ أقصى الشيء وغايتُه، ثم سمي به ضربٌ من السير سريعٍ… والنًّصُّ: التوقيفُ، والنًّصُّ: التعيينُ على شيءٍ ما، ونصُّ الأمرِ شدته… ونصَّ الرجلَ نصًّا: إذا سأله عن شيءٍ حتى يستقصي ما عنده، ونصُّ كلِ شيءٍ منتهاه… قال الأزهريُّ النًّصُّ: أصلُه منتهى الأشياء ومبلغُ أقصاها، ومنه قيل: نصصّتُ الرجلَ إذا استقصيتُ مسألتَه عن الشيء حتى تستخرجَ كلَ ما عنده، وكذلك النَّصُّ في السير إنِّما هو: أقصى ما تقْدِرُ عليه الدَّابةُ”([1])

أمَّا مفهومُ النَّصِّ في الدراسات الفِقهيَّة فهو: ما لا يحتمل إلَّا معنى واحدًا، وقيل: ما لا يحتملُ التأويلَ” وبالتالي فهو نوعٌ من أنواعِ ” المُحْكَمِ، يقول العلامةُ الحِلِّيُّ: ينقسمُ اللفظُ باعتبار ظهور دلالتِه على معناه وخفائها إلى نوعين: إنْ لم يحتمل غيرَ ما فُهم منه فهو” النَّصُّ”، وإنْ احتملَ: فإنْ تساويا فـ” المُجْمَلُ” وإلَّاـ” الراجحُ” ظاهرٌ، والمرجوحُ”مؤولٌ”([2])

ولذا ارتبط مفهومُ النَّصِّ عند الفقهاء  بالدلالة؛ فشاع عندهم ما يُعرفُ بـ”إشارة النَّصِّ” و”عبارة النَّصِّ” و”دلالة النَّصِّ” و”اقتضاء النَّصِّ”.

ويفهم من هذا أنّ النَّصَّ عندهم قد يطلقُ ويراد به: أيّ لفظٍ، ومن ثمَّ يقال:” نصٌّ أدبيُّ، ونصٌّ علميُّ، ونصٌّ دينيُّ،… وقد يطلق النَّصُّ ويرادُ به لفظًا بعينه محصورًا في كلام الله، وفي هذه الحالة يكون خاصًا بالقرآن الكريم والسنَّة المطهّرة، ومن هنا قالوا: لا اجتهاد مع نصٍّ.

وبالتأمُّلِ في كلام اللغويين والفقهاء يمكن القولُ أنَّ مادة (ن. ص. ص) في التّراث العربي تدور حول معنى الرفعِ، والوضوحِ، والظهورِ، والتحريكِ، والاستقصاءِ، وبلوغِ أقصى الشيء ومنتهاه، وضمِ الشيء إلى الشيء، والإحكامِ، والإتقانِ، والمتنِ.

وكلها معانٍ كما يقول الدكتور نعمان بوقرة: تدورُ حولَ الحدثِ والفعلِ، أمّا المعنى الاسمي الذي يدور حول النسج، والترابط، والاتساق، والانسجام، فلا نكاد نرى له أثرًا في المعاجم العربية، حتى لو حاولنا الربط بينها وبين النسج والإحكام.

فإذا تجاوزنا تلك المعاني المعجمية والفقهية المعروفة عند العرب إلى البحث عن مفهوم للنصّ بالمعنى المتعارف عليه –حاليًا- عند النصيين نلحظ – عندهم- التقاربَ الشديدَ والتوافقَ بين كلا المعنيين؛ المعجمي والاستعمالي.

مفهوم النص في الفكر الغربي:

” أمّا النصُّ في المعجم الفرنسي(texte) فهو مأخوذ من مادة (textus) اللاتينية التي تعني النسيج، …كما تعني منذ العصر الإمبراطوري ترابط حكاية أو نص…

والذي نلاحظه في المعنى اللغوي لمادة(texte) أنّها تدلُّ دلالةً صريحةً على التماسك والترابط والتلاحم بين أجزاء النصّ، وذلك من خلال معنى كلمة”النسـج” الذي يشير إلى الانسجام، والتضام، والتماسك بين مكونات الشيء المنسوج ماديًا، كما تشير معنويًا –أيضا- على علاقات الترابط والتماسك، من خلال حبك أجزاء الحكاية.

وهكذا نرى أنّ كلمة “نصّ” في التعريف الفرنسي أقرب في الدلالة على مفهوم التماسك النصّيّ؛ فهي تدلّ على الترابط بين أجزاء الحكاية، كما أنّ كلمة النسيج- المقابل المعجمي لمادة نصّ- في أبسط معانيها تدل على الانسجام، والتماسك، والترابط، والتناسق بين خيوط المنسوج؛ ذلك المنسوج الذي يُشكِّل قيمة فنية ترتفع جمالياتها كلما ازداد تماسك خيوطها. ([3])

وبالتأمل في المعنى المعجمي في المعاجم الغربية والمعنى الاصطلاحي في الدراسات المعاصرة نجد مفهوم النصّ في المعجم الغربي متشابكًا ومترابطًا مع المفهوم الاصطلاحي؛ لما يقوم به صاحبُ النصِّ من عملية الربط والاتساق بين الألفاظ والجمل والفقرات على المستويين: اللفظي والدلالي. فالنصُّ كما يقول الأزهرُ الزنادُ: “نسيجٌ من الكلماتِ يترابط بعضُها ببعضٍ” ([4])

 ==================================================================

يتبع

أ.د/ صالح أحمد عبد الوهاب

أستاذ البلاغة والنقد

https://www.youtube.com/channel/UCSUJyz_yZLfFHnc9wyFoKiQ

https://www.facebook.com/saleh.ahmedabdelwahab.5

الهوامش:

([1]) لسان العرب لابن منظور- دار إحياء التراث العربي- بيروت – لبنان- الطبعة الثالثة – 1419هـ1999م- مادة(ن. ص.ص) المجلد14، ص162.

([2]) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: للعلامة الحلي أبي منصور جمال الدين الحسنبن يوسف (ت٧٢٦– تحقيق:عبد الحسين البقال، ط٣، الإعلام الإسلامي، ١٤٠٤هـ. ص65.

([3]) ينظر ” نحو لسانيات نصية عربية” للدكتور/ رشيد عمران – شبكة التواصل الاجتماعي- تاريخ الدخول 26/8/2016.

([4]) الأزهر الزناد- نسيج النص- ط-المركز الثقافي العربي، بيروت،١٩٩٣م – ص: ١٢

اظهر المزيد

ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
ArabicEnglishGermanUrdu